مرت سنوات عدة على الغزو الأمريكي المشؤوم للعراق، ومع ذلك لم تستطع النخب السياسية العراقية، حتى هذه اللحظة، أن تعيد بناء مؤسسات الدولة المدنية وفق أسس صلبة، وبناءً على قواعد عصرية تأخذ في الحسبان التركيبة التعددية والفسيفسائية للمجتمع العراقي. ونستطيع أن نزعم أن البنية الطائفية التي باتت تغلب على المشهد السياسي العراقي، أضحت واقعاً يهدد الهوية العراقية ومستقبل الدولة الوطنية، نتيجة لاستراتيجية أمريكية وصهيونية تم التخطيط لها منذ زمن بعيد، وجرى تنفيذها من قبل قوات الاحتلال الأنجلو – أمريكي، وبمباركة من إيران وتركيا اللتين ما زالتا تصران على تنفيذ أطماعهما التوسعية في المنطقة العربية.
وإذا كان التدخل الإيراني في العراق يحظى في هذه المرحلة بمتابعة سياسية وإعلامية واسعة، فإن التدخل التركي يتم السكوت عنه، بل ويجري في أحيان كثيرة تزكيته من طرف قوى الإسلام السياسي في العديد من الدول العربية التي تناست ما اقترفه الأتراك تاريخياً من تجاوزات وجرائم في المنطقة العربية، وتحديداً في الشام والعراق. والمسألة في الواقع يجب ألا ترتبط، في اعتقادنا، بخيار المفاضلة بين تدخلين إقليميين في القضايا المتعلقة بالأمن القومي العربي؛ ولا وجود بالتالي لتدخل جيد وآخر سيئ، لأن المشكلة تكمن في نهاية المطاف في قوى الإسلام السياسي، بشقيها السني والشيعي، التي لا تجد أي حرج في التحالف مع القوى الإقليمية على حساب المصلحة العربية والقومية المشتركة، بل وحتى على حساب المصلحة القطرية للدول الوطنية؛ وهذا ما يفسر إقدام الكثير من الأحزاب المحسوبة على التيار الإسلامي بالترويج للنفوذ التركي في العديد من الدول العربية، مشرقاً ومغرباً.
وعليه، فإن تركيزنا في هذه العجالة على التدخل التركي في العراق نابع من قناعتنا أن هذا التدخل بات يهدد بشكل خطر وحدة العراق، ويدفع الكثير من القوى العراقية المستقلة والوطنية، سنية وشيعية، إلى الانخراط في تحالفات قطبية ترعاها القوى الإقليمية وقائمة على خيارات غير وطنية، وبخاصة عندما يتم الترويج لتصورات مشبوهة، من قبيل أن من يرفض النفوذ التركي يكون بالضرورة مؤيداً للنفوذ الإيراني؛ ليتم بذلك إغفال واقع أن العراق ظل يشكل منذ استقلاله قوة إقليمية عربية مهابة الجانب، استطاعت أن تواجه الأطماع الإيرانية والتركية على حد سواء. لأن العراق الذي ألفناه، منذ تأسيس الجمهورية العراقية، رفض دائماً أن يكون تابعاً، وظل طوال عقود طويلة يتعامل مع القوى الموجودة في جواره الإقليمي بحذر بالغ، من منطلق اقتناعه بضرورة التعامل مع تركيا وإيران، بكثير من الندية وفي ظل الاحترام المتبادل لمبدأ سيادة الدول.
ويمكن القول إن هناك شعوراً عربياً متزايداً بخطورة التحركات التركية على أمن واستقرار الدول العربية، وهو شعور موجود بقوة لدى النخب الوطنية والقومية التي ما زالت متمسكة بمقولات ومفاهيم الأمن العربي المشترك. وكانت الجامعة العربية قد عبرت في أواخر السنة الماضية، على إثر اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب، عن رفضها للتدخل العسكري التركي في العراق، وقال نبيل العربي الأمين العربي: إن وجود القوات العسكرية التركية فوق الأراضي العراقية يشكل انتهاكاً خطراً للقانون الدولي ولسيادة العراق. بيد أن التدخلات والاستفزازات التركية لم تتوقف عند هذا الحد، حيث قامت القوات الجوية التركية باختراق المجال الجوي العراقي في مناسبات عدة، من أجل ضرب مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. ومن المفارقات العجيبة التي تسم السياسة الخارجية التركية بميسمها، هو أن حكومة أردوغان، وفي الوقت الذي تقول إنها تحارب من تصفهم بالانفصاليين الأكراد الأتراك في شمال العراق، فإنها تبرر وجود قواتها فوق الأراضي العراقية من أجل دعم وتدريب قوات البيشمركة الكردية التي تمثل القوة الضاربة لانفصاليي العراق، وهي تعلم – بما لا مجال للشك فيه- أن تطوير القدرات القتالية لأكراد العراق يتم على حساب توازن القوة مع المؤسسة العسكرية العراقية التي تمثل الحكومة المركزية في بغداد. وحتى إذا افترضنا جدلاً، أن السلوك التركي نابع حقيقة من رفضها للسياسات الطائفية للحكومة المركزية، فإن السعي إلى فرض توازن طائفي على النخبة الحاكمة في العراق، لا يمكن أن يتحقق من خلال دعم الأكراد، لأن هذا الدعم لن يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى تفتيت وحدة العراق، ومن العيب في كل الأحوال أن يتحدث أردوغان عن العراق ويصفه بالدولة المنقسمة، وهو يدعم- في اللحظة نفسها – التوجهات الانفصالية داخل هذا البلد.
والأمر اللافت للانتباه في هذا المشهد الإقليمي المتداخل، هو أن الرئيس التركي الذي يحرص على مواصلة مسلسل تصريحاته الاستفزازية تجاه جيرانه العرب، لا يترك مناسبة إلا ويتحدث فيها بسوء عن العراق، كأنه يقود مجتمعاً مثالياً. ومن ثمة فإنه وفي اللحظة التي يدعي فيها أنه يدافع عن الأقليات في بلاد الرافدين، فإنه يتناسى أن الأقليات العرقية والدينية في تركيا مازالت تتعرض للتهميش والاضطهاد، فضلاً عن التراجع الكبير الذي عرفته حرية التعبير وحقوق الإنسان في تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. كما أن التحرشات التركية بدول الجوار العربي، ليست وليدة اليوم، ولكنها تعود إلى سنوات خلت قبل سقوط نظام صدام، وقبل بداية الأزمة في سوريا، فقد سعت تركيا إلى تهديد الأمن المائي للدولتين من خلال بناء العديد من السدود على منبعي نهري الفرات ودجلة، مدعية أن هذه المياه تركية ويحق لها أن تتصرف فيها وفق ما تراه مناسباً من دون التنسيق مع دولتي المصب.
ما تسعى تركيا الأردوغانية إلى تجاهله هو أن العراق في حاجة اليوم إلى استعادة اللحمة الوطنية، وإلى إعادة ترميم النسيج الاجتماعي المشترك، وإلى بناء مؤسسات مستقرة قادرة على المساواة ما بين جميع أبناء العراق، سواء كانوا سنة أو شيعة أو أكراداً، ويتطلع العراق في الوقت نفسه إلى إحياء وبعث دوره الإقليمي لكي يستعيد موقعه في معادلة الصراع مع العدو الصهيوني. وبالتالي فإن العراق الجريح الذي مازال محافظاً على أنفته وكبريائه، لا يريد أن يكون مستباحاً لا من قبل طهران ولا من طرف أنقرة.