نون والقلم

الانعزالية.. ميراث أوباما الدامي

خلال عامهم الأخير في البيت الأبيض يحجم الرؤساء الأمريكيون عادة عن خوض معارك داخلية كبيرة. ويتجنبون طوعاً أو كرهاً اتخاذ قرارات مصيرية في الشأن المحلي ، لأن السياسيين بمن فيهم أعضاء الكونغرس ومن خلفهم الرأي العام يكونون في شغل شاغل عنهم، ولا يتحمسون للاصطفاف مع رئيس يوشك أن يودّع منصبه إلى غير رجعة.
لهذا يطلقون على الرئيس في هذه السنة البطة العرجاء لضعف قدرته على الأداء أو الإنجاز. ولنفس السبب يجد الرؤساء في عامهم الأخير في السياسة الخارجية مهرباً ومجالاً رحباً للعمل وتسجيل نجاحات تضاف إلى تاريخهم.
لا يمثل باراك أوباما استثناء من تلك القاعدة السياسية. وهو بدوره لم يعد أمامه غير القضايا الخارجية ليحرز فيها بعض النقاط. وقد يكون من المبكر إصدار حكم عام على ميراثه في السياسة الخارجية. إلا أن ذلك لا يمنع من بلورة آراء لا تنقصها الموضوعية عبر مراجعة سجله طوال السنوات السبع الماضية.
كما هو شأن كل القادة السياسيين لا يوجد إجماع على نتيجة أداء أوباما. هناك من يرى أن إصراره على عدم التورط في حروب خارجية أو مستنقعات ، كما وصفها مراراً ، قد تسبب في أضرار كارثية للأمن القومي الأمريكي، وألحق الضرر أيضاً بمصالح الحلفاء.
في المقابل يعتبر آخرون أن هذا الالتزام جنّب أمريكا ويلات طالما عانتها علي أيدي رؤساء آخرين. ومن وجهة نظرهم فإن أوباما متسق مع نفسه لأن عدم التدخل في حروب جديدة كان أحد الوعود الانتخابية التي نجح على أساسها. ومن ثم صار ذلك عقداً بينه وبين الناخبين لا يجوز أن ينتهكه.
وبصرف النظر عن النتائج التي أفضى إليها هذا التوجه الانعزالي، يظل السؤال هو إلى أي مدي التزم أوباما بالفعل بعدم التورط في صراعات خارجية؟ وهل ما زال مقتنعاً ومؤمناً بصحة موقفه رغم الانتقادات الحادة الموجهة له؟
للإجابة عن السؤال الثاني سنعود إلى الوراء أشهراً قليلة وبالتحديد في يناير الماضي عندما ألقى خطابه الأخير عن حالة الاتحاد. قال«نريد أن تبقى أمريكا آمنة، وأن تقود العالم دون أن تصبح شرطياً له». معنى هذا أن إيمانه بصحة موقفه ظل قائماً بعد سبع سنوات. وقد كان الشرق الأوسط أوضح النماذج لتطبيق هذه السياسة الانسحابية من مشاكل العالم.
وحديثه الشهير إلى مجلة «اتلانتك» قبل أسابيع تأكيد آخر على الأمرين، أي إصراره على سياسته الانسحابية واقتناعه بها. ثم إصراره على الإهمال المتعمد لقضايا الشرق الأوسط. قال أوباما للمجلة «إن الشرق الأوسط لم يعد مهماً بصورة هائلة للمصالح الأمريكية، وإن أي رئيس أمريكي لا يملك الكثير ليجعل منه منطقة أفضل، وإن التدخل العسكري أدى إلى قتل جنودنا واستنزاف المصداقية والقوة الأمريكيتين».
نترك التعليق على هذا للصحفي الشهير ديفيد إغناتيوس الذي كتب في «واشنطن بوست» مفنداً ادعاءات أوباما ومؤكداً أنها خاطئة. أولاً لأن الشرق الأوسط كان وما زال مهماً للمصالح الأمريكية. وثانياً لأن الولايات المتحدة تستطيع دوماً أن تساعد المنطقة وليس كما قال لا تملك ما تقدمه. وثالثاً لأن عدم التدخل يضر بمصالح الولايات المتحدة ووضعها الدولي.
الأهم من ذلك أن كل خطوة أمريكية للخلف تقابلها قفزة للأمام تقوم بها قوة إقليمية أو دولية مثل روسيا أو إيران أو «داعش». فهل ستكون أمريكا في وضع أفضل بينما تتقدم مثل تلك القوى لملء الفراغ الذي تتركه؟
نعود إلى السؤال الأول حول المدى الذي ذهب إليه أوباما في الالتزام بمبدأ عدم التدخل العسكري. نشير أولاً إلى التطورات والشواهد القائمة والتي تكشف إلى أي حد تسببت سياسته الخارجية في تفاقم أزمات الشرق الأوسط وتحولها إلى مآسٍ إنسانية وقومية حقيقية. في عهده تمددت «داعش» وتمزقت سوريا، وقتل مئات آلاف من مواطنيها، وتحوّل الملايين إلى مشردين في أنحاء العالم. وفي عهده انتشرت الفوضى في العراق، وتحوّلت ليبيا إلى أشلاء دولة ومرتع جديد لـ«داعش» وتزايد التغلغل الإيراني في المنطقة.
في كل أزمة من تلك الأزمات اضطر أوباما في مرحلة من المراحل إلى التخلي عن موقف المتفرج الذي التزم به. وحاول التدخل في اللحظة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولكن في كل مرة حدث ذلك متأخراً جداً. عارض الدخول في حروب خارجية ولكن أجبرته التطورات على خوض الحرب ضد «داعش» في العراق وسوريا وليبيا. أصرّ على الانسحاب من العراق ثم أعاد بعض القوات ثم المزيد منها تدريجياً عندما استولت «داعش» على المدن الكبرى. رفض تسليح المعارضة السورية التي انهارت تقريباً ‘ ثم اكتشف أنه كان يجب أن يدعمها بدلاً من أن يشارك بنفسه في قتال «داعش».
ترك سوريا مرتعاً لروسيا وإيران ونهباً للحرب ثم استيقظ على صراخ حلفائه في أوروبا يستغيثون من تدفق ملايين من مواطنيها اللاجئين. تردد في العمل العسكري ضد القذافي قبل أن يتدخل بضغط فرنسي، ثم توقف دون إتمام المهمة لتغرق ليبيا في الفوضى، وها هو يعود الآن ليرسل طائراته لضرب «داعش» التي تمددت هناك.
فعل أوباما كل ما كان يرفضه في البداية ولكن متأخراً جداً ، ولذلك جاء بلا تأثير تقريباً. والمؤكد أنه لم يعد لديه من الوقت ولا الجهد ولا الرغبة لإصلاح ما أفسده بتردده. وسيرحل تاركاً هذه المهمة الصعبة لمن يخلفه أو تخلفه في البيت الأبيض.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى