نون والقلم

العرب بين الغرب والقوى الإقليمية

تزداد الأوضاع في الوطن العربي تفاقماً نتيجة للتطورات الإقليمية والدولية المتوالية التي باتت تهدد ما بقي من استقرار في مناطق معزولة من الجغرافيا العربية، التي يحيط بها حزام ناري يمتد من العراق وسوريا في المشرق وصولاً إلى تونس في المغرب؛ ويبدو أن خيارات الأمة العربية تزداد صعوبة نتيجة للتعقيدات التي أضحت تتسم بها النزاعات الداخلية في الوطن العربي بسبب ضياع البوصلة القومية وانخراط الكثير من النخب في مجتمعاتنا العربية في صراعات هامشية قائمة على تصنيفات مذهبية وعرقية. ويمكن القول إنه وباستثناء التدخل الروسي في الأزمة السورية، فإن الوطن العربي يجد نفسه محاصراً ما بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة، والقوى الإقليمية ممثلة في تركيا وإيران من جهة أخرى، وبخاصة بعد ما جرى تحييد مصر وإضعافها سياسياً واقتصادياً ودفعها إلى التركيز على الوضع الأمني الداخلي في سيناء شرقاً وعلى الحدود مع ليبيا غرباً.
وأسهم هذا التردي المتواصل في الأوضاع العربية في حصول القوى الإقليمية على امتيازات جمة، حيث إنه ومباشرة بعد نجاح إيران في مفاوضاتها النووية مع المجتمع الدولي بقيادة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، توصلت تركيا مؤخراً إلى اتفاق تاريخي مع دول الاتحاد الأوروبي، من خلال توظيف محنة اللاجئين السوريين من أجل خدمة أجنداتها الداخلية والإقليمية، حيث سمحت لها تداعيات الأزمة السورية أن تحصل على تنازلات من الاتحاد الأوروبي، لم تستطع الحصول عليها طوال سنوات طوال من المفاوضات الشاقة والعقيمة مع أقطاب الرئاسة الأوروبية في بروكسل.
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الغرب بقيادة الولايات المتحدة، التي تسعى قيادتها الآن إلى التملص من مسؤولياتها السياسية والأخلاقية في نشر الفوضى العارمة التي تشهدها المنطقة العربية؛ حيث إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما لم يجد مؤخراً أي حرج في التأكيد على أن بلاده، التي نهبت خيرات المنطقة، لا تريد الانخراط في صراعات محلية لا تخدم المصالح العليا لواشنطن. كما أن بريطانيا وفرنسا تمارسان سياسة خارجية قائمة على الابتزاز والانتهازية في تعاملهما مع ملفات المنطقة العربية، ويمكننا أن نعطي أمثلة كثيرة على ذلك، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الغرب يعمل على تسيير الأزمات العربية من دون أن يقدم أي مجهود حقيقي من أجل المساهمة في إيجاد حلول ناجعة لها. وقد أبانت تطورات الأحداث أن الغرب يفضل حتى الآن، التعامل مع تركيا وإيران، عوض المراهنة على الدول العربية، بالرغم من الامتيازات والفوائد الكبيرة التي مازال يجنيها من خلال الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية التي أبرمها مع الدول العربية.
وتذكِرنا هذه الممارسات السياسية الغربية بالسلوكيات التي كانت تنتهجها «إسرائيل» في تعاملها مع الدول العربية، فقد كانت تصر باستمرار على ألا تتفاوض مع الدول العربية مجتمعة، وكانت تسعى باستماتة كبيرة إلى الفصل ما بين المسارات، ونجحت في البداية في عزل مصر ووقعت معها اتفاقية كامب ديفيد، لتنفرد لاحقاً بالسلطة الفلسطينية وتجرها نحو عقد اتفاقية أوسلو، لتصل في نهاية المطاف إلى توقيع اتفاقها الثنائي، المثير للجدل، مع الأردن. وهي السياسة ذاتها التي تسعى الدول الغربية حاليا إلى اتباعها من خلال حرصها على التعامل مع كل دولة عربية على حدة، بل وتتورط في حالات كثيرة في تأجيج الصراعات الثائية ما بين الدول العربية؛ كما تعكف الآن على تطوير علاقاتها مع الأقليات العرقية في الوطن العربي.
وعليه فإن البعثات الدبلوماسية الغربية لا تجد أي حرج في التعامل مباشرة مع الأحزاب المعارضة ومع الجماعات الانفصالية، وكأنها كيانات دولوية مستقلة، في خرق واضح ومتعمد من قبلها لمبدأ سيادة الدول الذي نصت عليه مواثيق الأمم المتحدة. ويمكننا أن نشير في السياق ذاته إلى أنه قد سبق لمسؤولين أمنيين غربيين أن أفصحوا عن ملامح هذه السياسة الجديدة عندما أكدوا في وقت سابق، أن سوريا والعراق لم يعد لهما وجود سياسي مستقل؛ وبالتالي فإن الترويج للحلول السياسية المتعلقة بالفيدراليات، في الكثير من مناطق النزاع في الدول العربية، يهدف في نهاية المطاف إلى تقويض أسس الدول الوطنية.
وتتزامن هذه السياسة الغربية المشبوهة تجاه الوطن العربي مع سلسلة تفاهمات تجريها القوى الإقليمية بزعامة تركيا وإيران على حساب المصالح القومية للأمة العربية، إذ إنه وبالرغم مما يشاع من اختلافات ما بين طهران وأنقرة بشأن المستقبل السياسي للدولة السورية، إلا أن المصالح التي تجمع الجانبين هي أكثر بكثير من الأشياء التي تفرِق ما بينهما، حيث إنه وفي غمرة التصريحات النارية المتبادلة بشأن الأزمة السورية لم تتوقف الزيارات بين الجانبين وعلى أعلى المستويات. إذ إنه وبعد مدة قصيرة من زيارة الرئيس أردوغان إلى إيران وزيارة رئيس حكومته داوود أوغلو، قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مؤخراً بزيارة إلى تركيا، وأجمع المراقبون على أنها اتسمت بأهمية بالغة وسمحت للطرفين بتنسيق جهودهما من أجل المحافظة على مصالحهما المشتركة. وذهبت بعض وسائل الإعلام الدولية إلى وصف التقارب التركي – الإيراني، بزواج المصلحة بينهما، وصرح الوزير الإيراني، في سياق متصل، أن البلدين بإمكانهما أن يقوما بعمل مشترك من أجل مواجهة الأزمات الإقليمية؛ وقد بدا ظريف متفائلاً إلى حد بعيد بشأن مصير هذا التعاون بعد أن استقبل من طرف الرئيس التركي.
وبالتالي فإنه وبالرغم من الضغوط الجيواستراتيجية المختلفة، فإن طهران وأنقرة عازمتان على مواصلة مساعيهما من أجل تحقيق توافق أكبر بشأن رسم ملامح مستقبل المنطقة، وبخاصة في هذه المرحلة التي تبدو فيها أنقرة في أمس الحاجة إلى الحصول على استثمارات كبيرة في إيران بعد رفع العقوبات الغربية التي كانت مسلطة عليها.
وصفوة القول إن الوطن العربي الذي يعيش الآن إحدى أصعب مراحل وجوده التاريخي، نتيجة للأزمات الداخلية ذات الأوجه المتعددة، يواجه حالياً حصاراً مضاعفاً على المستويين الإقليمي والدولي. وفي استطاعتنا أن نزعم أن الحصار الإقليمي الذي تقوم بها كل من تركيا وإيران قد يكون أكثر خطورة، من الناحية الجيوسياسية، من الحصار الذي تضربه القوى الغربية على الدول العربية؛ ولا يمكننا أن نستبعد بالتالي، أن هناك تقاسماً للأدوار ما بينهما، فتركيا التي تدعي أنها تدافع عن السنة في الوطن العربي، لا تجد أي حرج في محاصرة أكبر بلد عربي، حيث تسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى تقويض أمن مصر واستقرارها وتعمل على عزلها على الصعيدين الإقليمي والدولي، حتى لا تلعب دورها التاريخي المتمثل في إحداث التوازن المطلوب داخل لعبة التوازنات في المنطقة العربية.

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى