العلاقة طردية بين قوة النظام الإقليمي العربي، وقوة الدولة المركزية أو الدولة القائد، القادرة على قيادة هذا النظام، نحو تحقيق أهدافه القومية. ولقد ارتبطت نشأة النظام الإقليمي العربي بتطور دور مصر في هذا النظام، فكانت بداية النشأة في قلب مصر، بأول اللقاءات التحضيرية والتأسيسية للجامعة العربية، وموقعها في قلب القاهرة، وما له من دلالات سياسية عميقة، واحتضان هذا المكان لكل اللقاءات العربية المشتركة، ومازال هذا المبنى بتفاعلاته، يشكل الأساس لأي عمل عربي مشترك، وإن كانت مرحلة التأسيس ضعيفة لأسباب عديدة، منها ضعف أنظمة الحكم العربية، وهيمنة وتأثير القوى الإمبريالية المسيطرة وقتها على القرار السياسي العربي، وتمدد إسرائيل وهزيمتها للعرب في حرب 1948، ثم جاءت مرحلة الحيوية والفعالية أو مرحلة الإحياء العربي مع ثورة 23 يوليو في مصر، ورفع شعار العروبة والتصدي لكل القوى المتربصة بالجامعة العربية، وكان دور الرئيس عبدالناصر العروبي واضحاً في كل سياسات مصر، وكان الإدراك منذ البداية بضرورة بناء مصر، واستعادة قوتها، فجاء بناء الجيش المصري على أسس من الوطنية والاستقلالية، وبناء مصر الاقتصادية بمشروع السد العالي، ومشاريع الحديد والصلب، ومشاريع الغزل والنسيج العملاقة، وبناء أكبر هيكل للقطاع العام، حتى يملك الشعب إرادته وقراراته. وخلال هذه المرحلة من الحيوية التي استمرت حتى عام 1967، شهد العمل العربي المشترك حيوية العمل، وإن تخلل هذه المرحلة الكثير من مظاهر الحرب العربية الباردة، والتنافس بين بعض القوى العربية، وخصوصاً في أعقاب حرب اليمن، وقد تخوفت القوى الإقليمية والدولية وإسرائيل من قوة الدور المصري، لما لهذا الدور من أثر في النظام الإقليمي العربي، فكان استهداف قوة مصر ودورها وجيشها بحرب 1967 التي ليست أكثر من مؤامرة دولية لضرب هذا الدور. ومع ذلك كانت إرادة مصر أقوى، وتمت إعادة بناء الجيش المصري ليقوم بدوره الوطني والقومي، ويستعيد أرض سيناء، ويحقق أول انتصار في حرب أكتوبر المجيدة، لكن هذه المرحلة لم يُكتب لها الاستمرارية، واستمرت المؤامرات لضرب دور مصر وإخراجها من سياقها العربي، فكانت مرحلة القطيعة العربية الخاطئة، بتجميد عضوية مصر في الجامعة، والتي هي تجميد لدور الجامعة العربية، في أعقاب توقيع اتفاقات كامب ديفيد مع «إسرائيل»، ليعود هذا الدور بجهود من المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي أدرك ماذا تعني جامعة عربية بدون مصر، فعادت مصر وعادت الجامعة العربية إلى قلب القاهرة. لكن بقيت القوى الدولية تتربص بالدور المصري وإبقاء مصر بعيدة، وقد انعكس ذلك في مرحلة السكون والجمود العربي الطويلة، وهنا لعبت الدول العربية دوراً في ذلك، وأيضاً لا يمكن إغفال مسؤولية الحكم في مصر بتقليص دور مصر، والتسليم بدور الدول الأخرى، وكانت النتيجة تراجعاً واضحاً في دور النظام الإقليمي العربي، ومرحلة تنشيط دور القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا، وإتاحة الفرصة لظهور العديد من الفواعل من غير ذات الدولة كحزب الله وحماس، والحركات الإسلامية، ولا أبالغ القول إن هذا التراجع في دور مصر، و في دور الجامعة العربية، والتراجع في دور الدولة العربية، أسهم بما آلت إليه المنطقة من تحولات كلها لا تعمل لصالح المشروع العروبي الذي قلبه مصر، فكان التمدد الإيراني والتدخل التركي، وبروز دور الدول الصغيرة، وبداية التفكك للنظام الإقليمي العربي على أسس جديدة من الإثنية والطائفية والمذهبية، إلى أن دخلنا المرحلة الحالية والتي شهدت مصر خلالها تطورات سياسية دراماتيكية بثورتيها بصعود الحكم الإخواني وسقوطه السريع بفعل إرادة شعبية، لتدخل مصر مرحلة حكم جديدة يقودها الرئيس عبدالفتاح السيسي. والحالة لا تختلف كثيراً عن مرحلة يوليو/تموز 1952، ومرحلة الحيوية والإحياء للجامعة العربية، وإن كانت تحديات هذه المرحلة أقوى وأشرس. حكم جديد فى مصر يحارب من قوى كثيرة، في حاجة لإثبات وجوده وشرعيته بالإنجاز، وتحديات على المستوى العربي، وتحديات دولية وتحولات في موازين القوى لصالح القوى الإقليمية والدولية. وكل هذا على حساب قوة المشروع العربي. وبنفس الحس الوطني والقومي الذي حكم ثورة يوليو 1952، أدركت مصر وقيادتها الجديدة أن الخطوة الأولى تكمن في بناء قوة مصر، وتبني مشاريع عملاقة، وأنه إذا ما تم ذلك فسينعكس إيجاباً على فعالية وحيوية النظام العربي الجديد، وتصديه لكل المشاريع البديلة، ومن هنا نجد الاستهداف لدور مصر ودور جيشها بالإرهاب والعنف الذي تقف وراءه قوى كثيرة، والهدف واضح ويعيد نفسه، وهو ضرب قوة مصر، وإذا ما تحقق هذا الهدف سهّل ضرب المشروع العربي. وفي هذا السياق فإن الوقوف بجانب مصر مسؤولية عربية، إضافة إلى الحفاظ على دور ومستقبل الدول العربية وأنظمة الحكم فيها. المرحلة تحتاج تكاملاً في الأدوار، ورؤية استراتيجية عربية موحدة لمواجهة التحديات التي لا تواجه مصر فقط، بل تواجه الدول العربية كافة، إنها مرحلة بناء القوة العربية، والتي بدونها سينهار كل المشروع العربي، ومعه كل الدول العربية القائمة.
نقلا عن صحيفة الخليج الاماراتية