منذ أقل من ثمان سنوات بأشهر عدة، كتبت في هذه الصحيفة مقالة قبل ظهور نتائج الانتخابات الأميركية التي جاءت بالسيد باراك أوباما إلى البيت الأبيض. وليسمح لي القارئ الكريم أن أقتطع جزءاً لا بأس به من هذه المقالة وأعيد نشرها مرة أخرى لتكون تمهيداً طويلاً جداً لما أريد قوله بخصوص «عقيدة أوباما».
قلت تحت عنوان «فلنحلم بأميركا الجديدة بعد ربع قرن» في نوفمبر 2008 التالي:
«المعسكر العالمي الذي يكره سياسات أميركا الحالية يتمنى فوز باراك أوباما، والمعسكر العالمي المتحالف مع أميركا لكنه يكره أن تكون أميركا في المقدمة دائماً يتمنى فوز باراك، والمعسكر العالمي الذي يحب أميركا ويكره المحافظين الجدد يتمنى فوز باراك أوباما، والمعسكر العالمي الذي يحب أميركا ويتمنى لأميركا أن تحب العالم يتمنى فوز باراك أوباما، والمعسكر العالمي الذي يحب أميركا ويحب جورج دبليو بوش يتمنى فوز جون ماكين. لذلك لو عملنا استفتاءً عالمياً حول من يفضل الناخب العالمي لرئاسة أميركا: باراك أوباما أم جون ماكين، لسحق أوباما منافسه الجمهوري، ولألحق به هزيمة شنعاء تتحدث بها ركبان البحر لمدة طويلة. لماذا ركبان البحر؟ لأن البحارة معروفون بالثرثرة التي لا تنتهي.
أنا، كناخب عالمي أتمنى فوز باراك أوباما، لكنني أعرف في قرارة نفسي أن فوزه بالانتخابات لن يغير شيئاً على أرض الواقع اللهم في ما يختص بالمسألة العراقية، لأنها تهم العائلات الأميركية أكثر مما تهم العائلات العربية! أوباما خلال فترة حكمه سيضع دائماً في اعتباره الاتهامات التي أطلقها بعض غلاة الجمهوريين أثناء الانتخابات والتي تتعلق بإسلامه وميله نحو الحقوق العربية، لذلك سنجده دائماً ينأى بنفسه عن اتخاذ أي قرار قد يفسر على أنه موالٍ للحقوق العربية والإسلامية حتى لو لم يكن كذلك. سيميل أوباما دائماً تجاه الحلول التي ترضي خصوم العرب والمسلمين ليثبت للناخب الأميركي أن اتهامات الجمهوريين ما هي إلا تهويمات وتخيلات وتخمينات يُقصد منها تشويه سمعته، خصوصاً وأن هناك حملة رئاسية أخرى تنتظره بعد أربع سنوات.
مثلي كثيرون غير متفائلين بفوز باراك أوباما، لكنه على أية حال سيظل المرشح الأفضل لي وللكثيرين، لأن ذلك يعني أن أميركا قد تغيرت. وهذا التغير سيعود على الأميركيين بالنفع خلال السنوات القليلة القادمة، وسيفيد العالم في المستقبل. قد لا يفعل أوباما خلال فترته أو فترتيه الرئاسيتين أمراً ذا قيمة بالنسبة للحقوق العربية، لكن المؤكد أن الرئيس الملون أو الأسود أو حتى الذي تمتد جذوره إلى الأرض العربية، الذين ربما يحكمون أميركا بعد عشرين أو ثلاثين سنة سيكونون في منأى عن الاتهامات التي تربطهم بالمصالح العربية، لأن أوباما (الضحية) قد مهد لهم الطريق لأن يتجنبوا أي اتهام يشكك في حقيقتهم الأميركية.
فوز أوباما سيكون بمثابة وضح حجر الأساس لبناء أميركا الجديدة، صحيح أن البناء لن يكتمل في عهد أوباما لكنه سيكون جاهزاً لأن يشغله الوجدان الأميركي بعد ربع قرن على أكثر تقدير.
أوباما لن يكون في صف العرب والمسلمين، علينا أن نعي هذه النقطة جيداً، وربما يكون فوز رئيس أبيض ديموقراطي أفضل لنا من فوز أوباما، كون الرئيس الأبيض قادر على أن يتخذ القرار الحقيقي والصحيح بشان القضايا العربية والإسلامية من غير ضغوط، إذا ما افترضنا الحيادية طبعاً في هذا الرئيس، لكننا في المقابل نؤمل على أميركا الجديدة التي سيكتمل بناؤها بعد ربع قرن في حالة فوز أوباما، ولا يهم حينذاك ما إذا كان الرئيس أبيض أو ملوناً.
في الطرف الآخر من الخريطة الانتخابية، سيكون فوز جون ماكين بالرئاسة حدثاً تقليدياً جداً، ستسير الأمور كما هي عليه الآن، وسينتصر الجيش الأميركي في العراق وذلك من خلال السقوط أكثر وأكثر في المستنقع العراقي، وسيتفضل إعلام الجيش الأميركي بين فترة وأخرى بإعلان الانتصارات الأميركية المتوالية على المدنيين العزل الذين يموتون بشكل يومي في شوارع مدن العراق، لكن بشكل عام ستكون سياسة ماكين في صالح العرب والمسلمين أكثر من سياسة أوباما، لأن الضغوط التي تثقل ظهر أوباما ليس لها وجود في حال ماكين، لكننا مع ذلك نفضل أوباما لأن الفوز بكل العدالة بعد سنين طويلة أفضل من الفوز بشيء من العدالة بعد فترة قصيرة».
انتهى الجزء المستقطع من المقالة الطويلة، ولعل القارئ الكريم سيلحظ لماذا اخترت أن أقدم مقالتي الجديدة بهذه المقالة القديمة. لقد ظل أوباما طوال سنوات حكمة السبع الماضية أسيراً لهواجسه الداخلية التي ظلت تتعاظم سنة بعد سنة. كلما أقدم على خطوة خارجية، نظر إلى الوراء مرتين، إلى أن تعطلت قدرته في النهاية على القيام بأي فعل! كل نواياه المتعلقة بقراراته الخارجية كانت رهينة لردود أفعال «الواسب» المحليين، حتى قرر في النهاية أن يُريح ويستريح! في البيت الأبيض لم يكن «ابن حسين» أميركياً خالصاً، ولم يكن بمقدوره أن يكون كذلك! لو كان محاضراً في هارفارد أو عامل مطعم في بورتلاند أو رئيس شركة في فينيكس، لاستطاع أن يكون أميركياً، ولاستطاع أن يختفي في حشود السود الذين لا أم لهم سوى أميركا الجديدة، لكنه اختار أن يكون المواطن رقم واحد، والمواطن رقم واحد عليه أن يجلس على جهاز كشف الكذب في اليوم ثلاث مرات!
منذ أكثر من سنتين والأوباميون في الإدارة الأميركية يروجون لما يسمى بـ«عقيدة أوباما». كلام كثير ونظريات متعددة. جلبة مستعارة وضوضاء مستدرجة. عنوان فخم وتفاصيل معقدة، لكن هذه العقيدة أو المبادئ لم تكن في الحقيقة سوى «تنهيدة» رئيس عاجز. رئيس حاول أن ينتقم من أولئك الذين قيّدوا خطواته في المكتب البيضاوي، فرمى سهامه على أصدقاء أميركا وأعدائها في الخارج، وقدم داخلياً نظرية «الكل شيء» ليحرج من يأتي بعده! عقيدة أوباما ما هي إلا تلويحة وداع لرجل لم يستطع أن يبرهن على أميركيته في البيت الأبيض، فركب الفلسفة والكلام المزخرف وطار!
لكن ما هو موقف السعودية المتوقع من عقيدة رد الفعل هذه؟
السعوديون يعرفون أن حديث أوباما في عقيدته عن سياستهم الخارجية ما هو إلا جزء من كلامه عن الكل: قصف عشوائي. ويعرفون أن كلامه عن شعوب المنطقة ما هو إلا تعبير عن رأي رجل الشارع الغربي البسيط الذي يمنعه تمدنه من أن يقوله! لكنهم يعرفون أكثر أن عليهم أن يعتنوا جيداً بالبطة العرجاء ويحتووها من أجل أميركا، حتى مجيء واحد من الأنجلوسكسونيين البروتستانت البيض: كلينتون أو ترامب!