لا تزال المفاجأة الروسية تردد صداها في وسائل الإعلام وأروقة القرار السياسي في العالم، ولا يزال المحللون يجتهدون لسبر أغوار القرار وتداعياته على الوضع السوري ومستقبل النظام والمنطقة بشكل عام، وانعكاساته على المعارضة وتنظيم «داعش» بشكل خاص. إذ لا أحد ينكر أن الضربات الجوية التي نفذتها المقاتلات الروسية مهدت للنظام السوري استعادة عشرة آلاف كم تتضمن مئات القرى والمعسكرات والمراكز الاستراتيجية، وتوقّف هذه الضربات سيفتح المجال واسعاً أمام «داعش» والنصرة لشن المزيد من الهجمات، فضلاً عن الأثر الذي سيتركه هذا القرار في الساحتين العراقية والتركية سلباً وإيجاباً.
من الطبيعي أن يقوم بوتين بإخطار الولايات المتحدة ومجلس الأمن، ولكن ليس من الطبيعي أن يخطر النظام السوري عن طريق محادثة هاتفية، وهذا الإجراء الأخير فتح المجال أمام تأويلات عديدة، منها ما ربط الانسحاب بتصريحات وليد المعلم وزير الخارجية السوري قبيل انعقاد مؤتمر جنيف، من أن الرئيس بشار الأسد «خط أحمر» في المفاوضات، ومنها ما تحدث عن ممارسة ضغوط على الأسد ليتخلى عن السلطة أو يشارك بشكل جاد في المفاوضات على الأقل، ومنها ما فسر الانسحاب الروسي بمحاولة الخروج من الحرب التي يقال إنه شعر بورطة ويخشى أن ينغمس أكثر في المستنقع السوري.
الدهشة التي صنعها القرار جاءت بعد العمل المضني الذي قام به الروس لحشد عشرات الطائرات المقاتلة ومئات العربات العسكرية وآلاف الجنود وبناء قواعد عسكرية برية وبحرية، وإعلانه الحرب على «داعش» وأخواته، والحرب الدبلوماسية التي خاضها لصالح النظام السوري، بعد كل هذا يبدأ بالانسحاب المفاجئ ويترك حليفه عرضة للسقوط في أي لحظة.
لكن الدهشة تزول لو قرأنا ما بين السطور في المواقف والتصريحات، فمن الناحية الشكلية أكد أكثر من مسؤول سوري وروسي أن الحرب مستمرة على الإرهاب، والتنسيق بين الطرفين مستمر بقوة، وقالت بثينة شعبان، مستشارة الرئيس السوري إن القوات الروسية قد تعود إلى سوريا بعد الانسحاب، (وإذا سحب الأصدقاء الروس جزءاً من قواتهم.. هذا لا يعني أنها لا يمكن أن تعود)، لكن من ناحية المضمون، فإن العلاقات بين سوريا وروسيا هي علاقات مصالح وليست علاقة تحالف استراتيجي دائم، وقد فرضت هذه المرحلة أن تشارك روسيا بقوة نالت إعجاب العالم، خاصة أنها حققت نتائج خلال ستة أشهر عجزت الولايات المتحدة وحلفاؤها عن تحقيقها على مدى سنوات، إلا أن بقاء القوات الروسية بعدتها وعديدها لن يستمر إلى الأبد، لاسيّما أن تكاليف هذه المشاركة باهظة، أي أن التدخل الروسي هو مرحلي ومؤقت، لكن الطرف السوري كما يبدو فهم الأمر بطريقة أخرى، واعتقد أن روسيا تحارب من أجل مصالحها الاستراتيجية، لكن روسيا فاجأته خلال الشهر الماضي بتصريح يقول إن الأسد لا يسير بخطى متجانسة مع جهودها الدبلوماسية، ما أشار في تلك الفترة إلى أن بوتين يضغط على بشار ليكون أكثر مرونة في محادثات السلام في جنيف.
وفي المضمون أيضا، هناك ما جعل الانسحاب الروسي مهماً عشية انعقاد المفاوضات، وهو ذهاب الوفد الحكومي السوري إلى جنيف رغم إعلان دي مستورا أن البحث سيكون في تشكيل حكومة مشتركة تقود الفترة الانتقالية، ويفهم من هذا الكلام أن ذلك يشكل نهاية الفترة التي ستتوج بمغادرة الأسد للسلطة.
هناك أمور جوهرية تسير بموازاة القضية السورية، منها موافقة بوتين على لقاء نتنياهو، رئيس الوزراء «الإسرائيلي» للبحث في الترتيبات الأمنية في المنطقة، وهو عنوان عريض يحتمل تكهنات وتفسيرات كثيرة، لكن التصريح الذي لا يحمل الكثير من التأويلات، هو الذي جاء على لسان بشار الجعفري، ممثل الحكومة السورية إلى مفاوضات السلام في جنيف، حين قال إن دمشق تدعو لتحرير هضبة الجولان في اقتراح التسوية الذي قدمته لمبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا دي مستورا، وهذا يعني أن المفاوضات لا تقتصر على حل الصراع بين المعارضة والنظام في سوريا، وإنما تتعداها إلى قضايا إقليمية، حيث من المعروف أن «إسرائيل» ضمت هضبة الجولان عام 1981.
إن فشل المفاوضات سيؤدي هذه المرة إلى فتح فوهة بركان حجمها قد يطال العديد من دول المنطقة، وستكون المعارك شرسة إلى درجة الإبادة، فبعض الفصائل والجهات ستدخل في سباق محموم لاحتلال أراض وتركيز سلطتها ونفوذها، ولهذا قال دي مستورا إنه لا توجد خطة بديلة أمام الأطراف (إذا لم نر في هذه المحادثات أو في الجولات القادمة أي بادرة على الاستعداد للتفاوض.. فإننا سنحيل الأمر مرة أخرى إلى من لهم تأثير أي روسيا الاتحادية والولايات المتحدة.. ومجلس الأمن الدولي..). وهذا التصريح جعل الطرفين يحضران بقليل من التحفظات، حتى إن المعارضة وافقت على الجلوس المباشر مع وفد الحكومة.
وكانت المملكة العربية السعودية مؤيدة من عدد كبير من حلفائها قد أعلنت أنه في حال فشل المفاوضات سيكون خيار التدخل العسكري مطروحاً، ولا يعني هذا التدخل الأحادي، ولكن، كما يبدو، يتسق مع تصريح دي مستورا، في إحالة الملف إلى مجلس الأمن، ما يعني وضع احتمالات عديدة من بينها الخيار العسكري، الذي لو اتخذ، ستشارك فيه روسيا إلى جانب الولايات المتحدة ودول حليفة أخرى، دون التأكد من انضمام إيران إلى التحالف، وهذه نقطة جوهرية في التعامل مع القضية السورية، فقد أعلنت إيران أنها تؤيد الانسحاب الروسي وتعتبره إيجابياً، كما تدعو إلى حل سلمي للصراع في سوريا مع الاستمرار في مكافحة الإرهاب.
يمكن القول إن التغيير قادم في سوريا، وروسيا ستحافظ على وجودها الاستراتيجي في البحر الأبيض المتوسط، هذا إذا سارت الأمور في المنحى السلمي، أما إذا كان الحل عسكرياً، فسيحدث التغيير أيضاً، ولكن مع بحار من الدم، وتغيير خريطة الشرق الأوسط فعليا هذه المرة.
36 3 minutes read