أعلن النظام السوري أن الانتخابات التشريعية لانتخاب برلمان جديد ستجرى في موعدها الدوري خلال نيسان (أبريل) المقبل، وذلك التزاماً بالحفاظ على العملية الديموقراطية في سورية. أثار القرار استهجاناً واسعاً في الداخل والخارج، باستثناء ما عبر عنه الرئيس السوري بوتين من أن إجراء الانتخابات لا يتعارض مع العملية السياسية الجارية. فهل تعبر الانتخابات حقاً عن «العشق الديموقراطي» للنظام السوري غير المعروف عنه هذه المحبة؟ وكيف ستتحقق في ظل الأوضاع الراهنة؟
صحيح أن الانتخابات أحد مظاهر التعبير عن سيادة الدولة وحق من حقوق ممارسة الشعب في اختيار ممثليه في السلطة. لكن السيادة السورية اليوم هي المفقودة فعلاً والموضوعة في يد القوى الخارجية. منذ سنوات، وخلال الحرب الأهلية الدائرة، انتقلت السيادة السورية من النظام القائم إلى المعسكر الإيراني الذي بات يتحكم بمسار الحرب ومفاصل السياسة. وقبل أن يتضح معنى الانسحاب الروسي الأخير، يبقى أنه لا يمكن نسيان وجوب خضوع الأسد لما تقتضيه المصالح الروسية، ما يعني أن العنصر الأول لتحقق السيادة بات شبه مفقود بالكامل.
العنصر الثاني الذي يستدعي التأمل به هو «حدود» الشعب السوري الذي سيمارس العملية الديموقراطية. يعرف الرئيس السوري أن نصف شعبه يعيش اليوم خارج سورية، مشتتاً بين الدول المجاورة ويعاني مرارة الذل والعيش في المخيمات، وقسماً منه بات ضائعاً في بلاد الله الواسعة، ما يعني أن قسماً من هذا الشعب موجود في مناطق محددة تخضع لسيطرة النظام هي التي ستنتخب وتنوب عن سائر السكان. ألا يشي هذا الإصرار على إجراء الانتخابات عملياً في مناطق «سورية المفيدة»، بأن النظام قد نفض يده من سورية الموحدة، وبات يتصرف عملياً على أن حكمه سيقتصر على مناطق محددة من سورية؟ أي عملياً على الإقرار الواقعي بتقسيم سورية؟
عامل آخر يتصل بما سبق، إن القسم الأكبر من سورية يقع تحت سلطة التنظيمات المسلحة، ولا صلاحية لمؤسسات النظام في التعاطي معها، فكيف سيتصرف النظام مع السكان الذين ما زالوا يقطنون هذه المناطق، وهل أسقطهم من الحساب، وكيف تتجسد السيادة الرسمية في هذه المناطق؟ ما يعني أيضاً الحسم الرسمي بأن تلك المناطق الموجودة خارج «سورية المفيدة» لم تعد تعني للنظام أي ارتباط بالبلد الأم، وهو أمر يطعن بشرعية كل العملية الديموقراطية المدعاة.
يأتي الإصرار على إجراء الانتخابات في ظل عملية سياسية جارية باتت عناوينها واضحة: حكم جديد، دستور جديد، وانتخابات رئاسية ونيابية جديدة على أساس الدستور الجديد، وهي قضايا بات عليها شبه اتفاق من القوى الممسكة اليوم بالأزمة السورية والمحددة مسارها المستقبلي، أي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. من المعروف أن العناوين الثلاثة هذه تهدف إلى تكوين للسلطة مختلف عن واقعها الحالي، بحيث لا يعود الحاكم السوري مطلق الصلاحيات. وهذه العناوين الثلاثة سيدفع النظام السوري ثمنها، فهو الذي يملك كل شيء في الحكم والسلطة، وهو الذي سيقدم التنازلات التي ستقلص من وطأة تسلطه. والنظام يدرك النتائج المترتبة على المسار السياسي، لذا يستبق الإنجاز الأخير للمفاوضات بوضع القوى الغربية أمام أمر واقع، بحيث لا يعود من معنى للعملية السياسية الجارية ولا للانتخابات التي ستجرى استناداً إليها. ناهيك بأن النظام لا يبدو أنه مرتاح لعمليات وقف إطلاق النار وقصف السكان وتدمير ما تبقى من البلد، بل هو يسعى عملياً لاستعادة الحرب بالقوة. لكن الرئيس السوري يعرف في الوقت ذاته أن هذا القرار هو قرار الرئيس بوتين أولاً وأخيراً.
ما يعزز الرغبة السورية في استئناف القصف، عودة التعبير الشعبي الذي شكل ميزة الانتفاضة السورية في بدايتها. انطلقت التظاهرات مجدداً بمجرد شعور السكان بالهدوء الحربي، وعاد هذا الشعب إلى شعار إسقاط النظام، على رغم معاناته من القوى المسلحة التي تبسط سيطرتها عليه. إنه من المؤشرات الإيجابية التي تؤكد أن هذا النظام هو المسؤول أولاً وأخيراً عما أصاب سورية وانتفاضتها وحرفها عن مسارها السلمي، كما تمثل إشارة للنظام السوري تجعله يرغب بقوة في قصف المناطق، حتى لا يتواجه بتعبيرات معادية له على غرار التظاهرات الأخيرة.