كشف الرئيس الأميركي باراك أوباما في أحاديثه الطويلة الشاملة لمجلة «ذي أتلانتيك»، القناع عن وجهه الحقيقي، في سابقة غير معهودة في الأحاديث التي يدلي بها الرؤساء الأميركيون أو غيرهم من قادة دول العالم للصحافة. فللمرة الأولى يطلع أوباما على العالم بهذه التصريحات الفاضحة الكاشفة عن الخلفيات والمعبرة عن الأفكار الخطيرة، التي إن فاجأت الرأي العام العالمي بصورة عامة، فإنها لم تكن مفاجئة لمن سبروا أغوار سياسة الإدارة الأميركية في هذا العهد، المطبوعة بالتردد، وعدم الحسم، والنكوص عن اتخاذ القرارات التي يقتضيها حفظ الأمن والسلم الدوليين، وافتعال الغموض لإخفاء الدوافع الحقيقية، والتناقض بين الأقوال والأفعال والكيل بمكيالين، مما تسبب في تفاقم الأزمات الحادّة التي تشهدها مناطق عدة من العالم، خصوصاً منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي.
لقد تحدث أوباما في سلسلة طويلة من الحوارات (تقع في 20 ألف كلمة) صاغها الكاتب الأميركي الصهيوني جيفري غولدبرغ تحت عنوان «عقيدة أوباما»، عن تحول أندونيسيا، تدريجياً، من دولة مسلمة متسامحة إلى دولة أكثر تطرفاً وغير متسامحة. وردّ هذا التحول، إن كان قد حصل فعلاً، إلى المملكة العربية السعودية والدول الخليجية، فزعم أنها ترسل الأموال وعدداً كبيراً من الأئمة والمدرسين إلى أندونيسيا.
وادعى أوباما أن السعودية موّلت في 1990 المدارس الوهابية في شكل كبير، وأقامت ندوات وملتقيات ودورات لتدريس الرؤية الأصولية المتطرفة للإسلام. وزاد فقال واصفاً هذه الرؤية المتطرفة بأنها «المفضلة لدى العائلة المالكة». وخلص إلى القول: «أصبح الإسلام في إندونيسيا عربيَّ التوجّه غير ما كان عليه الوضع عندما كنت أعيش هناك».
هذه التصريحات، وغيرها كثير مما لا نريد أن ننقله ونروج له، تعني بالعبارة الواضحة، أن الرئيس الأميركي أعلن العداء للسعودية ولدول مجلس التعاون، حين اتهمها بالتورط في نشر الإرهاب من خلال إنشاء المدارس وإيفاد المدرسين وإنفاق الأموال، حتى تحولت الدولة الإسلامية الكبرى من حيث عدد السكان، إلى ساحة للتطرف الذي يـنشئ الإرهاب. وهذا افتراء وتلفيق يخل بالحقـائق، الغرض منه القول إن السعودية والدول الخليجية تنشر الإرهاب في إندونيسيا وغيرها من دول العالم الإسلامي.
واتخذ أوباما موقفاً واضح الانحياز إلى إيران، حين قال: «إن السعوديين يجب أن يتقاسموا الشرق الأوسط مع الأعداء الإيرانيين، وأن التنافس بين السعوديين والإيرانيين الذي غذى الحروب بالوكالة والفوضى في سورية والعراق واليمن، يتطلب منا أن نقول لأصدقائنا (يقصد السعوديين) وللإيرانيين إنهم في حاجة الى أن يتوصلوا إلى وسيلة وطرق فعالة لتقاسم الجوار وإقامة شكل من أشكال السلام البارد». واستطرد قائلاً: «أن نقول لأصدقائنا فقط إنكم على حق في أن إيران مصدر كل المشكلات، وأننا سندعمكم في التعامل مع إيران، فسوف يعني بالضرورة أن هذه الصراعات الطائفية ستستمر في التصاعد». وهذا يعني أن الدولتين معاً، السعودية وإيران، هما المسؤولتان عن تدهور الوضع في المنطقة.
وفي ذلك تبرئة لإيران، بقدر ما فيه اتهامٌ باطلٌ للسعودية، والإيحاء بأنها تدعي على إيران وترميها بما ليس فيها. وهو مخالفة للواقع على الأرض، بالتجاهل وليس بالجهل، لأن الرئيس أوباما يعلم جيّداً وبما فيه الكفاية، عن الأدوار التخريبية لطهران في المنطقة، مباشرة أو عن طريق الميليشيات الشيعية التابعة لها في العراق وسورية ولبنان واليمن، ومن خلال الخلايا الإرهابية التي زرعتها في دول الخليج العربي، وبخاصة البحرين والكويت والسعودية، بحيث تعدّ ضالعة في ممارسة الإرهاب، وزعزعة الاستقرار، لفرض هيمنتها. فهذه السياسة الإيرانية لا تخفى عليه وعلى مساعديه.
أراد أوباما أن يعلن للعالم أن «الإرهاب السني» مصدر التوترات والاضطرابات في هذا العالم، وأن إيران لا تمارس «إرهاباً شيعياً»، وحتى إن مارسته فإنه لا يهدد الأمن الإقليمي والسلام العالمي. وتناسى أن إرهاب داعش والنصرة وقبلهما القاعدة الذي يوصف ظلماً وزوراً بـ «الإرهاب السني»، هو صناعة مشبوهة لبلاده يدٌ طولى فيها. والخطير في هذه التصريحات أنها تصدر عن الرئيس الأميركي، الذي يفترض فيه أن يكون رصيناً في كلامه وتحليلاته، وهي من دون شك، شر مستطير يؤذن بالدفع بالمتغيرات نحو ما هو أخطر على الأمن والسلم الدوليين. فهذه الحملة العدائية ضد السعودية تخدم في الأساس مصالح إيران والصهيونية والاستعمار الجديد، ولا تتفق في شيء مع المصالح الاستراتيجية الحيوية للشعب الأميركي، ولا مع العلاقات التاريخية الوثيقة والمثمرة بين البلدين والتي بدأت بلقاء الملك عبدالعزيز، رحمه الله، بالرئيس الأميركي الراحل روزفلت في شباط (فبراير) 1945 على ظهر المدمرة الأميركية «كوينسي».
إنَّ الترجمة الواقعية لهذه التصريحات توضح أن «القيم الأميركية» المستمدة من الدستور الأميركي ومن وثيقة الاستقلال، باتت في مهب الريح، وأصبحت موضع إخلال بها وتنكر لها على نحو شديد الخطورة. كما تؤكد تلك التصريحات المنافية للأعراف الديبلوماسية، أن ما سمي «عقيدة أوباما»، حسب تعبير غولدبرغ، عقيدة فاسدة في مضمونها، ومنحرفة عن المسار التقليدي للعلاقات بين أميركا وأصدقائها في المنطقة، كما تتناقض مع القانون الأميركي بالدرجة الأولى، ومع القيم الأميركية التي جعلت من هذه الدولة القوة العالمية الأكثر تقدماً والأوسع انتشاراً والأوفر ازدهاراً.