في مثل هذا الشهر، منذ مئة عام بالتمام والكمال، اتفقت الدولتان الاستعماريتان، بريطانيا العظمى وفرنسا، وبإشراك لروسيا في الحصول على جزء من الغنيمة، اتفقتا على توقيع اتفاقية سايكس – بيكو الشهيرة. وكان العرّابان الموقّعان الإنجليزي سايكس والفرنسي بيكو.
كانت عبارة عن اتفاقية قصد بها إكمال سرقة وتوزيع ممتلكات الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، تلك السرقة التي بدأت قبل أربع سنوات من إبرام الاتفاقية بتنازل السلطان التركي عبد الحميد عن مناطق غنية في آسيا الصُغرى لروسيا، وعن قبرص ومصر لبريطانيا العظمى، وعن تونس لفرنسا، وعن ليبيا لإيطاليا، وعن البوسنة للنمسا.
لكنّ الجشع الاستعماري الغربي لم يقف عند تلك التنازلات. فما أن بدأت الحرب العالمية الأولى في سنة 1914 وانضمّت الإمبراطورية العثمانية العجوز المتفكّكة إلى الجانب الألماني، حتى وجدت الدول الثلاث، بريطانيا وفرنسا وروسيا، فرصتها الذهبية لسرقة وتوزيع أجزاء جديدة فيما بينها، فكانت الوسيلة نقاشات سرية، أعقبتها تفاهمات سرية، وانتهت بتوقيع تلك الاتفاقية السرّية اللصوصية التي، بالنسبة لنا نحن العرب، أدّت إلى تقسيم المشرق العربي واحتلاله واستعماره من قبل فرنسا وبريطانيا.
ما يهمنا بالنسبة إلى استعادة ذكرى تلك الاتفاقية المشؤومة وما فعلته بأرض العرب وشعوبها، هو أن نسأل أنفسنا: هل أن الغرب الاستعماري، وفي قلبه الحركة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية، في طريقه إلى إتمام ما بدأته اتفاقية سايكس – بيكو وتعميمه في هذه المرة على كل الوطن العربي، من أقصى مغربه إلى أقصى مشرقه؟
والجواب هو أن كل الدلائل تشير إلى أنه «نعم»، إذ إن كل الظواهر وكل الألاعيب وكل البلادات التي رافقت توقيع تلك الاتفاقية منذ مئة عام نراها ماثلة أمامنا في هذه اللحظة المفجعة المجنونة التي يعيشها كل الوطن العربي. دعنا نذكر، للدّروس والعبر، بعضاً من تلك التماثلات والمقارنات بين ما جرى من قبل وما يجري اليوم.
*أولاً: لقد أعطت بريطانيا وعوداً للعرب، عن طريق محادثات ووعود كاذبة لملك الحجاز الشريف حسين وابنه فيصل، بأنها وبقية الدول الأوروبية الاستعمارية المعنية سيحترمون رغبة العرب في الخروج من تحت الحكم العثماني واستقلالهم في دولة واحدة، لكن بريطانيا حنثت بذلك الوعد وتقاسمت بلاد العرب مع الآخرين، ونقلتهم من استعباد قديم إلى استعمار احتلالي جديد. وقد تمّ ذلك بسرية تامّة، إذ يذكر التاريخ أن الشريف حسين ومن حوله لم يعرفوا عن اتفاقية سايكس – بيكو إلاّ بعد ثمانية عشر شهراً من توقيعها. وحتى بعد أن عرف ذلك ظلّ الشريف حسين وابنه فيصل يثقان ثقة عمياء بالوعود البريطانية، على وجه الخصوص.
اليوم، بعد تلك التجارب المريرة، كم من أنظمة حكم عربية تعرف حقاً تفاصيل ما يدور من نقاشات، وما يحاك من صفقات في كواليس وأروقة مؤسسات اتخاذ القرارات على مستوى الدول الكبرى، وعلى مستوى مختلف الهيئات الدولية؟ كم من رجالات الحكم العرب الذين يضعون الآن كل بيض بلادهم في سلّة هذا الحاكم الأجنبي، أو ذاك؟ حتى إذا ما تغّير ذلك الحاكم ضاعت السلّة وما فيها.
هل حقاً أن العرب يعرفون ما يخطط لمستقبل أقطار من مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان والأردن وليبيا ومصر، وكل الخليج العربي، أم أن سايكس – بيكو جديدة تطبخ على نار هادئة؟
*ثانياً: بعد سنة واحدة من إمضاء تلك الاتفاقية المفجعة، وبالرغم من انضمام العرب للحلفاء ضدّ الأتراك، إلاّ أن بريطانيا لم تتردّد في إصدار وعد بلفور الشهير الذي مهّد لإقامة كيان صهيوني في فلسطين. لقد كان مكافأة الغرب لوقوف العرب في صفوفهم والمساهمة في هزيمة تركيا.
اليوم يطلب الغرب من العرب وضع كل إمكاناتهم، المالية والبشرية والدينية، لهزيمة الإرهاب الدولي الذي ساهم الغرب بصور لا حصر لها في إنشائه ورعايته، والذي أصبح شراً دولياً فقط عندما بدأ ذلك الأخطبوط يتهدّد مجتمعاتهم، ويتكلمون عن حلف مقدس جديد بين الغرب والعرب.. ما أشبه الليلة بالبارحة.
لكن، هل حقاً أنه عندما تنتهي المعارك ضد الجهاد التكفيري العنفي المجنون سيتعاطف الغرب مع قضايا العرب العادلة من مثل قضية الشعب العربي الفلسطيني؟ ألن يوجد ألف تبرير وتبرير لعدم المساس بالمستوطنات ورجوع اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم فلسطين؟
هل سيسمح الغرب للعرب بأن يتصرّفوا بثرواتهم النفطية والغازية، إنتاجاً وتسويقاً وتصنيعاً، من دون وصاية وخطوط حمر أمريكية؟ هل سيسمح لفوائض تلك الثروات بأن تستعمل اقتصادياً حسب مصالح الأمة العربية، أم ستوضع أمامها المحدّدات والعراقيل لتصبّ استعمالاتها في مصلحة الرأسمالية العولمية التي يديرها الغرب مع حلفائه في الشرق؟
دعنا نكن صريحين: إذا لم يتوقف العرب عن ارتكاب البلادات نفسها التي ارتكبوها منذ مئة عام، ويتوقفوا عن الاستعانة بالخارج ضدّ بعضهم بعضاً، ويلعبوا دوراً محورياً غير هامشي في إطفاء حرائقهم بأنفسهم، وفي القفز فوق هرطقات الصّراعات الدينية والمذهبية والقبلية والحزبية الضيّقة، وفي التوقف عن العيش في الماضي ومحنه ومآسيه وسخافاته.. إذا لم يفعلوا كل ذلك بروح العقل والاستنارة والقيم الأخلاقية ومنجزات العلوم، فإنهم سيعيشون فواجع سايكس – بيكو جديدة كل قرن، إلى أن يخرجوا من التاريخ والجغرافيا والاجتماع البشري. وسيكون خروجاً بائساً.
35 3 دقائق