الفئة الصامتة مصطلح سياسي اجتماعي يشير إلى الفئة التي يحق لها ممارسة الحقوق السياسية ولكنها تحجم عنها. كأن تمتنع إرادياً، ومن دون إبداء أية أسباب، عن التصويت في الانتخابات المختلفة، وتمتنع عن المشاركة العامة في الأحزاب السياسية أو الفعاليات السياسية المختلفة، أو تعتزل متابعة الأحداث السياسية والمشاركة في التعليق عليها. ومؤخراً في الوطن العربي تم استحداث مصطلح «حزب الكنبة» أثناء أحداث الربيع العربي كناية عن القطاع غير المشارك في الوقفات الاحتجاجية والمكتفي بمتابعتها، مستلقياً على الكنبة، عبر شاشات الفضائيات.
والفئة الصامتة ظاهرة شائعة في العالم كله، حيث تشير أغلب إحصائيات انتخابات دول العالم أن أوج المشاركة الفاعلة فيها لا يتجاوز 40% ممن يحق لهم التصويت في أكثر الانتخابات كثافة في المشاركة. وصمت تلك النسبة الكبيرة من الناس يساهم في ترجيح كفة الشخصيات والأحزاب الناشطة التي تسعى لكسب الساحات السياسية المختلفة. ولكن لماذا يصمت قطاع عريض من الناس وينكفئ على نفسه ولا يتفاعل مع أشد الأحداث سخونة في بعض الأحيان؟ وهل هي ظاهرة طبيعية في جوهرها أم أن لها أسبابها وتراكماتها؟
أغلب الصامتين، في العالم، غير معنيين بالقضايا السياسية، وليس لديهم اهتمامات سياسية وهم مشغولون باهتمامات كثيرة ليست السياسية أحدها. وليس لديهم أدنى تصور بأهمية صوتهم أو حركتهم أو وجودهم. وقد تكون تلك ظاهرة صحية تنم عن استقرار سياسي ووجود قطاع مناسب يكفي بقية الشعب من عناء الانشغال بالسياسة والاجتهاد في قضاياها.
أما في العالم العربي فأغلب الفئات الصامتة تصمت لسببين رئيسيين: الأول أنها لا تجد من يمثلها، فهي ترى في السياسة لعبة مصالح للمنخرطين فيها من شخصيات وأحزاب. وأن دور الجماهير هو تمثيل الكومبارس والجوقة للاعبين الأصليين الذين سيجنون المكاسب ومن بعدها سيديرون ظهورهم لجماهيرهم التي صوتت لأجلهم ولن يقدموا لهم إلا الشعارات أو فتات الإنجازات.
وفصيل آخر من الصامتين العرب لا يجد في الواقع السياسي العربي إيجابية أو جدوى مثمرة للمواطن العربي. فأغلب السياسيين ينتمون لتيارات فكرية عفا عليها الزمن، أو اتجاهات إيديولوجية تتصارع على أفكار ميتافيزيقية لها أثرها في إذكاء الصراعات في الدول العربية ولكن ليس لها واقعيتها في التعبير عن الاحتياجات الملحة الراهنة للمواطن العربي. لذلك تجد بعض المواطنين العرب يأنفون من حالة التسييس والسياسيين لأنهم يغردون خارج سرب المواطن.
وكانت الحالة الفريدة التي خرجت فيها الشعوب العربية عن صمتها بعد موجة التحرر في الخمسينات من القرن الماضي، هي الفترة الحالية التي ظهرت فيها شبكات التواصل الاجتماعي وصارت المعلومات أسهل تداولاً ووقفت فيها الحكومات مضطربة أمام موجة الحرية التي لم تعرف كيف تضبطها بعد. ففي تلك المرحلة بدأ كثير من العرب وخصوصاً الشباب في التعبير عن آرائهم وانتقادهم للواقع الوطني والعربي الذي يعيشونه وساهم في ارتفاع سقف الحريات في التعبير عن الرأي ظهور الحسابات بأسماء مستعارة وعدم تطور قوانين النشر الإلكتروني في الدول العربية بما يكفي لضبط الحالة الجديدة على الوطن العربي.
وحين انفجرت موجات الاحتجاجات فيما سُمي ربيعاً عربياً خرج أكثر الصامتين للتعبير عن رفضهم لواقع الفساد والتهميش والاستئثار بالسلطة تحت إغراء أن من يديرون الحراك هم من الشباب المندفع الذين يرفضون الصمت كما قبله من سبقهم وبأن تلك التحركات لن تخدم أحزاباً أو شخصيات انتهازية أو إيديولوجية سوف تركب موجة الاضطرابات كما ركبتها في السلم.
غير أن النتائج العكسية التي منيت بها الفئة التي خرجت عن صمتها وما شاهدته من تسلل الأحزاب الإيديولوجية الإسلاموية من بين الجموع لتتقدم أول الصفوف ثم لتطبق على أنظمة الحكم الجديدة وتعيد إنتاج مساوئ الأنظمة السابقة بصورة أكثر بشاعة جعل تلك الفئة تؤمن أكثر بحكمة الصمت والتفرج عن بعد لأن الأمور انتهت كما كانت على عهدها السابق: تدار بأيد انتهازية تحول الشعوب العربية إلى جوقات ينتهي دورها بانفضاض الحدث.
وعادت الفئة الصامتة أدراجها إلى صمت أكثر عمقاً. صمت محمل بالانكسار والقلق والإيمان المزعزع تجاه كل القضايا المسلم بها سابقا. ومع اشتداد فداحة الخسارة العربية بموجة التغيير التي ضربت الوطن العربي خيم الإحساس بالذنب والشعور بالسقوط في الخديعة والوهم على كل المتحمسين للتغيير. وعادت الميتافيزيقيا بصورة جديدة للسيطرة على الذهنية العربية، تلك الميتافيزيقيا التي خلقت أوهام القدرات الغيبية والقوى الخفية التي تحرك الواقع وتسيطر على مصير الإنسان والتي عمل الحداثيون على محاربتها بِحث الإنسان العربي على التفكير والتأمل والعمل والاجتهاد لصناعة واقعه الحقيقي. لقد عادت الميتافيزيقيا لتؤكد نظرية المؤامرة وتشابكها مع الواقع العربي ولتؤكد عجز الإنسان العربي عن التحكم بمصيره وصناعة مستقبله كما يحلم ويطمح.
عاد الصمت العربي بأسوأ من ذي قبل. صمت طوى معه دعم القضية الفلسطينية، وتجاهل دعم حق الشعوب العربية، التي صارت مشردة في كل مكان، من استعادة وطنها وأمنها. صمت استسلم للوجود الغربي ممثلا في حلف الناتو وروسيا في الأراضي العربية، صمت قبل بخرافة «داعش» وقوتها وسطوتها وحولها إلى سرطان يتمدد في الجسم العربي دون معرفة لسبب تمدده ودون الاهتداء إلى حل لوقف انتشاره.
صمتت الأغلبية العربية، نعم.. ولكن ارتفعت أصوات الطائفيين والانفصاليين ودعاة الفتنة بين الشعوب العربية ومكونات الشعب الواحد. وما بين الصمت والصراخ تتناسل المشكلات العربية. فأين المشكلة؟ وما هو الحل؟
46 3 دقائق