عرفت السياسة الخارجية الفرنسية تطورات غير مسبوقة خلال السنوات القليلة الماضية وتحديداً منذ مجيء الرئيس السابق نيكولا ساركوزي إلى الحكم بداية من سنة 2007، واستمر مسار انحراف السياسة الفرنسية أثناء حكم الرئيس الحالي فرانسوا هولاند الذي دعم التوجهات الصهيونية فيما يتعلق بخيارات ورهانات السياسة الخارجية الفرنسية، حيث اصطفت فرنسا إلى جانب «إسرائيل» في الكثير من الملفات الإقليمية والدولية، لدرجة لم يتوقعها حتى «الإسرائيليون» أنفسهم. ووصل الأمر بقادة باريس إلى إطلاق رصاصة الرحمة على ما كان يعرف بالسياسة العربية لفرنسا، التي دشنها ودافع عنها شارل ديغول، ودعمها الرئيس جاك شيراك، الذي رفض وزير خارجيته دومنيك دوفيلبان أن يساند موقف إدارة جورج بوش الابن من أجل استصدار قرار أممي يسمح له بإضفاء الشرعية على غزوه للعراق.
ونستطيع القول إن فرنسا لم تتخل فقط عن سياستها العربية، وإنما تخلت في اللحظة نفسها عن منهجيتها الفريدة والمستقلة، التي كانت تساعدها على التعامل مع القضايا العربية بوصفها تمثل كتلة سياسية واحدة، وبدأت تنخرط بشكل تدريجي في دعم سياسة المحاور، وفي توظيف الانقسامات العربية – العربية من أجل خدمة مصالحها الضيقة. وعليه فإنه وبعد أن كان العرب ينظرون إلى الموقف الفرنسي بوصفه يمثل عامل توازن واستقرار داخل الكتلة الغربية، في مواجهة التوجهات الإمبريالية للسياسة الأمريكية، بات قسم كبير من هؤلاء العرب مقتنعاً أن السياسة الخارجية الفرنسية، تحولت فجأة إلى المزايدة بطريقة فجة على السياسة الخارجية الأمريكية في الكثير من الملفات الدولية والإقليمية، إلى درجة أن مستوى دعمها ومزايدتها على المواقف الرسمية للإدارة الأمريكية تجاوز مستوى الدعم الذي كانت تحظى به سياسة واشنطن من قِبل بريطانيا وألمانيا، الأمر الذي اضطر المستشارة الألمانية إلى التدخل في عدة مناسبات من أجل لجم اندفاع شريكها الفرنسي.
ويبدو أن وعي السلطات الفرنسية بطبيعة التغيرات الفجائية، وشعورها غير المتوازن بخطورة التحولات التي جرت في العالم بداية من سنة 2001 مع انهيار الأحادية القطبية وبروز الكثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين الجدد على مستوى الساحة السياسية العالمية، جعلها تتحرك بعشوائية في كل الاتجاهات من أجل الدفاع عن كل ما تعتقد أنه يمثل جزءاً لا يتجزأ من مصالحها الحيوية عبر العالم، حتى وإن كانت منافية للقيم والمبادئ التي تم وفقها بناء قواعد الدبلوماسية الفرنسية الحديثة. وبالتالي فإن فرنسا لم تعد تجد في هذه المرحلة، أي حرج يذكر في التعامل مع المجموعات الدينية والعرقية في الوطن العربي، على حساب سيادة الدول الوطنية. حدث ذلك ومازال يحدث مع الأكراد في المشرق ومع الأمازيغ في المغرب العربي، ولعل الكثيرين ما زالوا يتذكرون أن فرنسا عندما أرادت أن تدعم الفصائل الليبية المناهضة لنظام القذافي، اختارت الأمازيغ في جبل نفوسة لتزودهم بالسلاح عبر الطائرات، من أجل خلق فتنة بين العرب والأقلية الأمازيغية في ليبيا. كما أن علاقات فرنسا بالدول العربية لم تعد خاضعة لمعايير دقيقة ومضبوطة، حيث نلاحظ أن باريس لا تتردد في لعب أدوار مريبة في تعاملها مع مجمل القضايا التي تهم الدول العربية، وتتبنى خطاباً مزدوجاً عندما يتعلق الأمر بتبرير سياستها الخارجية على المستويين الداخلي والخارجي، وبخاصة بعد أن أقدمت المعارضة على اتهامها بدعم التيارات الدينية المتطرفة في الوطن العربي، بعد التفجيرات التي شهدتها فرنسا في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
تصر فرنسا على التأكيد في سياق متصل، أن سياستها الخارجية الحالية تستند على جملة من الأولويات منها عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، وفي الحلف الأطلسي وفي الاتحاد الأوروبي الذي لعبت دوراً ريادياً في تأسيسه، إضافة إلى امتلاكها لقوة الردع النووي التي تسعى من خلالها إلى أن تظل لاعباً أساسياً على مستوى النخبة التي تحتكر لنفسها أحقية اتخاذ القرارات المتعلقة بصياغة وتنفيذ السياسات الدولية؛ لكن باريس تتناسى في المقابل، أن قوتها الدبلوماسية كانت تعتمد في السابق على عنصر الحياد الذي كان يسمح لها بلعب دور الوسيط النزيه في الكثير من النزاعات الدولية. أما الآن فيبدو أن مصداقية السياسة الخارجية الفرنسية، قد تراجعت بشكل كبيرة لاسيما بعد قرار ساركوزي إعادة إدماج فرنسا في القيادة العسكرية لحف الناتو، لتصبح جزءاً من المنظومة الأمنية والعسكرية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة الأمريكية.
ونستطيع أن نزعم في هذا السياق أن السياسة الخارجية لفرنسا باتت تتميز بخطورة بالغة وباندفاع وتهور غير مسبوقين، وبخاصة عندما بدأت تلجأ إلى استثمار رصيدها التاريخي في مجال الدفاع عن الحريات الفردية والعامة، من أجل ابتزاز دول كثيرة باسم الدفاع عن حقوق الإنسان، وتلوح بما تسميه واجب التدخل من أجل الدفاع عن حقوق الأقليات في الكثير من الدول الوطنية، حيث تحولت فرنسا من دولة حليفة للولايات المتحدة و«إسرائيل» إلى دولة منحازة بالكامل لهذا المحور، تدافع عن أهداف سياسية لا تنسجم البتة مع الشعارات والقيم الإنسانية التي رفعتها الثورة الفرنسية ودافع عنها فلاسفة التنوير، والتي أصبحت مع مرور السنين إرثاً عالمياً للمجتمعات التي تتوق إلى تحقيق العدل والمساواة والإخاء ما بين كل شعوب المعمورة.
لقد وضع الساسة الفرنسيون الجدد الدبلوماسية الفرنسية في وضعية غير مريحة بالنسبة إلى مستقبل فرنسا، وأفضى ذلك إلى ضياع القسم الأكبر من الهيبة والاحترام اللذين كانت تتمتع بهما السياسة الخارجية الفرنسية لدى الكثير من الفاعلين الدوليين والإقليميين، وبات الكثير من الفرنسيين يستهزئون بسياسة بلادهم الخارجية التي أضاعت بوصلتها وباتت تنظر إلى المعضلات السياسية في العالم من منظور ضيق يرى الأشياء إما سوداء أو بيضاء، وتتناسى أن العلاقات الدولية قد تكون في كثير من الأحيان رمادية مصداقاً للمثل الدبلوماسي الشائع: عليك أن تعامل أعداءك وكأنهم سيصبحون يوماً ما أصدقاءك، ولا تنس أن أصدقاءك يمكنهم أن يصبحوا أعداءك. لأن السياسة الخارجية وفق المنظور الأمريكي الذي بات يسهم في توجيه الدبلوماسية الفرنسية، ليس فيها صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، ولكن – فقط – مصالح دائمة، ويبدو أن الانحراف الذي أصاب السياسة الخارجية الفرنسية، سيؤدي لا محالة إلى التأثير بشكل سلبي في مصالحها الاستراتيجية الكبرى، ويقضي بالتالي على كل خياراتها الآنية، التي تمليها عليها حساباتها المالية والتجارية الضيقة والمتهافتة.