بعد اجتماعات واتفاقيات معلنة وخفية، أصبحت قضية اللاجئين، وفي مقدمتهم السوريون مادة دسمة للمساومة بين تركيا والاتحاد الأوروبي. وبيّن الاتفاق الأخير بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، أن المشاعر الإنسانية التي كانت تفيض من ألسنة المسؤولين لم تكن إلّا مشاعر خادعة، لم تعكس النوايا الحقيقية، وبدأ قناع التعاطف مع اللاجئين يسقط تدريجياً بعد التطورات الدراماتيكية في سوريا، ونزع كثير من الأوراق من اللاعبين الإقليميين حولها.
تركيا والاتحاد الأوروبي انتصرا في الأخير لمصالحهما، وبقي اللاجئون ضحايا في كل الأحوال، ومادة للاستثمار السياسي الرخيص. وإذا كانت في السابق هناك طريق مفتوحة من سوريا إلى أوروبا عبر تركيا، ستغلق هذه الطريق، ولن يسمح للسير فيها إلّا في الاتجاه المعاكس، أي من أوروبا إلى نقطة الانطلاق الأولى، وهو ما يعني عملية ترحيل واسعة لعشرات الآلاف، تغلفها بعض البيانات السياسية وبعض المخاوف على الأمن الإقليمي.
ومن المتوقع أن تصبح هذه المشكلة قضية جديدة ستواجه مئات آلاف اللاجئين الذي هُجِّروا بفعل الحرب السورية، وبفعل النشاط الإرهابي في هذا البلد، وكذلك بالتحريض الذي مارسه عديد الأطراف الخارجية، لتكبير المأساة الإنسانية ولإثارة غرائز التدخلات الدولية، وما وراءها من مكاسب عسكرية وسياسية لبعض الدول، منها تركيا. لكن كل تلك المخططات ساهمت أطراف خارجية، منها روسيا، في إحباطها، وبعدما بدت الصورة شبه واضحة والمسار يتجه إلى الحل السياسي، فَطِن اللاعبون إلى أزمة اللاجئين، وبدأوا يتداركون للتخلص من هذا العبء، وعدم التورط فيه إلى ما لا نهاية.
تكفل القوانين الدولية والمعاهدات السارية حق كل دولة في الدفاع عن مصالحها، ومن أجلها يمكن أن تدخل حروباً، وتنفذ ما شاءت من المناورات السياسية، بيد أن ذلك الحق لا يسمح لأي دولة بالمتاجرة في القضايا الإنسانية وتوظيفها حسب المصلحة، وحسب اتجاهات الرياح والتوافقات الإقليمية والدولية. وهذا ما حصل للاجئين السوريين تحديداً، وبناء على الاتفاق التركي الأوروبي الجديد لم يعد بإمكان عشرات الآلاف من السوريين معرفة أي مصير ينتظرهم، وعلى أي أرض سيستقرون، في ظل هذه المساومة الخطرة. وهناك نقطة مثيرة للجدل اتفق عليها الجانبان، تقضي بأن يقوم الاتحاد الأوروبي بإسكان سوري يقيم حالياً في مخيمات تركيا، مقابل أن تستعيد أنقرة سورياً آخر من اللاجئين «الفوضويين» العالقين في الجزر اليونانية. وتتطابق هذه الخطة مع استراتيجية أوروبية شاملة لإغلاق جميع ممرات اللجوء سواء عبر بحر إيجه أو البحر المتوسط، وذلك بعدما تصاعدت التهديدات الإرهابية و«انتفاضة» دول أوروبا الشرقية على سياسة الدول الكبرى في الاتحاد، مثل ألمانيا وإيطاليا، اللتين تبديان بعض المرونة في التعامل مع الظاهرة.
بالتوازي مع الجدل حول تطابق الاتفاق التركي الأوروبي مع القانون الدولي وروحه، وهو عامل يمكن أن يهد الاتفاق من أساسه، هناك عوامل أخرى من داخل الاتحاد الأوروبي، يمكن أيضاً أن تقوض هذا المسعى، فالمشهد السياسي في القارة العجوز شاب على الدوام، ويتحرك بحيوية مفرطة، خصوصاً إزاء القضايا المصيرية. ومعلوم أنّ اتساع ظاهرة اللجوء قد منح الأحزاب اليمينية المتمردة على التقاليد الأوروبية، قوة رفض كبيرة. والدول صانعة القرار الإقليمي مثل ألمانيا وفرنسا والنمسا والدانمارك وبريطانيا تشهد نزوعاً شعبوياً نحو اليمين، وما يستتبعه هذا من عداء للاجئين، لاسيما المسلمين منهم، وفي هذه الدول لا يُتخذ القرار السياسي بمعزل عن الشارع، وهو ما يؤدي إلى تعديل بعض الاتفاقيات والتفاهمات، وربما نسفها، وهذا الأمر سينسحب بالضرورة على الاتفاق بشأن اللاجئين السوريين وغيرهم.
بمعنى آخر، إن هؤلاء الذين كانوا ضحايا الحرب والإرهاب سيستمرون ضحايا في الطريق إلى الأمن والاستقرار والعيش الكريم، ولن يبلغوا منها شيئاً، لأن مصائرهم أصبحت تتقاذفها جماعات الإرهاب وعصابات التهريب ومصالح الدول المختلفة.
34 2 minutes read