كثير من الفلسطينيين الذين وافقوا على «اتفاق أوسلو» وقبلوا «دولة فلسطينية على 22% من فلسطين التاريخية»، اكتشفوا بعد انتهاء السنوات الخمس الأولى من سريانه أنه كذبة كبرى وأنهم خدعوا، فبدأوا ينفضون عنه. حتى الجماهير الشعبية، وقسم من القيادة وجدت نفسها، بعد سنتين من انكشاف الكذبة، تنخرط في انتفاضة شعبية في خريف عام 2000، احتجاجاً على الخديعة.
بعد عقد ونصف من الانتفاضة الثانية، وكل ما ترتب عليها من نتائج وتغيرات في الوضع الفلسطيني على الأرض، وفي «السلطة» التي أفرزها الاتفاق والتي قيل إنها جاءت لتقيم «الدولة»، ما زلنا نقرأ «بيانات» لم تعد تجد من يقرأها أحياناً، لأنها وإن كانت دائماً تمتلئ بالشعارات التي تبدو حمالة للآمال إلا أنها كانت تتكشف دائماً عن مجرد «كلام» لا ينطوي على شيء إلا على أحد أمرين أو كليهما: التضليل المتعمد، أو حالة «انفصام» لا شفاء منها! وهذا بالضبط ما انطوى عليه آخر بيان صدر عن دورة الاجتماعات السادسة عشرة التي عقدها «المجلس الثوري» لحركة (فتح) في الثالث من مارس/آذار الجاري، بمشاركة الرئيس محمود عباس، والذي استمر ليومين. البيان الأخير لم يحمل جديداً يمكن التوقف عنده، لكن بعض الكتاب الفلسطينيين يثيرون حفيظتنا عندما يحاولون تسويق بضاعة كاسدة، ويجبروننا على التوقف أمام أمر كان يمكن أن يمر من دون أن نلاحظه.
لقد اعتبر كاتب فلسطيني، ليس فتحاوياً، أن البيان «يستحق اهتماماً أكثر عمقاً وجدية من قبل المستويات السياسية والنخب ووسائل الإعلام»! لماذا؟ يقول الكاتب، لأنه «عندما يجتمع المجلس الثوري للحركة.. فإن ما يتخذه من قرارات يحدد الآفاق التي يتجه نحوها المشهد الفلسطيني، ومشهد الصراع مع الاحتلال»! وتخفيفاً لوقع ما يقول يضيف: سواء في الاتجاه الإيجابي، كما يراه البعض، أو في الاتجاه السلبي كما يراه البعض الآخر..! ومن الواضح أنه يراه «في الاتجاه الإيجابي»، لأنه أيد موقفاً من السلطة تبناه البيان، وجاء فيه: «السلطة الوطنية أحد الإنجازات الاستراتيجية لشعبنا، وهو لبنة أساسية في بناء الدولة الفلسطينية العتيدة، ولن نسمح بانهيارها أو حلها..»، وقد اعتبر الكاتب هذا الموقف «رداً كفاحياً وصراعياً ضد الأصوات «الإسرائيلية» التي تطالب، أو تتوقع، انهيار السلطة. فالسلطة باقية وفي موقع مختلف عما أرادته لها إسرائيل»!
مهما يكن الأمر، ماذا جاء في بيان «الثوري» غير الموقف من «سلطة أوسلو» وبقائها؟
– لقد نص البيان على: «التنفيذ العاجل لقرارات المجلس المركزي المتعلقة بتحديد العلاقة مع سلطة الاحتلال، في ظل إسقاطها للاتفاقيات الموقعة وتنكرها لها كلياً»! لقد صادقت كل المؤسسات المعنية على هذه القرارات بعد صدورها، ولكن تم تناسيها، باستثناء أننا نسمع كلما لزم الأمر أن «القيادة تدرس تفعيل» تلك القرارات، وفي الممارسة يكون التفعيل عكسياً! في هذه الحالة تكون الحصيلة، كما كانت دائماً على رأي نزار قباني «كلمات… كلمات… كلمات»!! فكيف يمكن أن يشكل ما جاء في البيان «رداً كفاحياً وصراعياً» ؟ ثم ألا تحمل «الكلمات» عن «التنفيذ العاجل» للقرارات محاولة لتضليل الجماهير وإيهامها أن هناك «قرارات» قيد التفعيل؟!
– ونص البيان، أيضاً، على: «رفض كل العروض التي تنتقص من السيادة الوطنية» ! عن أية سيادة وطنية يتحدث البيان، طالما التمسك ب«اتفاق أوسلو» مستمر؟ لقد نص «الاتفاق» على «حكم ذاتي إداري محدود للسكان»، ولم يكن فيه شيء يشير إلى إمكانية قيام «دولة فلسطينية»، والإشارة «بعد ثلاث سنوات» كانت تتعلق بالمفاوضات من دون تحديد. فالعروض التي تتقدم بها الحكومات «الإسرائيلية» لا تصل إلى «دولة فلسطينية»، والتسلح بالاعترافات الدولية لا يساوي شروى نقير طالما السلطة الفلسطينية عاجزة عن فرض ما تتحدث عنه على تلك الحكومات. لذلك يصبح الحديث عن «رفض كل العروض التي تنتقص من السيادة الوطنية» مرة أخرى مجرد «كلمات»، وهي إن كان هناك من يعتبرها «موقفاً» فهو موقف فارغ من أي مضمون عملي قابل للترجمة في ضوء الممارسة!
– ونص البيان، أيضاً، على ضرورة تحقيق «المصالحة» و«إنهاء الانقسام»، وليس هناك من يجهل هذا المسلسل الممل، بل إن الفلسطينيين جميعاً أصبحوا على ثقة أن الانتصار على «إسرائيل» أسهل من تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام!!
بيانات «المجلس الثوري» لحركة (فتح) الأخيرة مثل بياناته السابقة في «عصر أوسلو»، ومثل بيانات كل «المؤسسات» و«المنظمات» الفلسطينية، مجرد كلمات، ورفعها إلى مستوى «المواقف» و«التوجهات» فيه افتئات كثير على اللغة قبل السياسة! لقد أطعموا الشعب بيانات، وعندما طال الزمن وانقضت السنين تأكد الجميع أنها مجرد «بيانات» ليس فيها إلا التضليل المتعمد إن كانت القيادات التي تصدرها واعية لما تقول، أو أنها انعكاس لحالة «انفصام» مزمن! وإذا كان الغرض من التضليل معروف يقصد منه المحافظة على «الامتيازات» التي حققها «الممتازون»، كالموقف من إضراب المعلمين مثلاً الذي يكشف طبيعة موقف السلطة والقيادات من حراك لم يتجاوز المطالبة بالحقوق العادية!
أما حالة «الانفصام»، فهي أشد خطراً من التضليل، لأنها حالة مرضية، تدل عليها وتفضحها مواقف القيادات الفلسطينية من الهبة الشعبية التي دخلت شهرها السادس دون أن تحرك ساكناً لدى هذه القيادات، طبعاً باستثناء الضريبة الكلامية التي تدفعها عن طيب خاطر لتبقى الحالة الفلسطينية كلها غارقة في الكلمات!!
34 3 minutes read