التعليقات كثيرة داخل أميركا وخارجها على الإنجاز الذي حقّقه الرئيس باراك أوباما بتوصّله إلى اتفاق مع إيران حول ملفها النووي. علماً أن ذلك نكسة بل هزيمة، في رأي عدد من الأميركيين. تتركّز انتقادات هؤلاء على عدم صدق الالتزامات الإيرانية في الاتفاق المذكور. علماً أن التركيز يجب أن يكون على أمر مهم آخر يعبِّر عنه السؤال الآتي: هل صارت الولايات المتحدة جاهزة وقادرة على التعامل مع إيران الصاعدة، مثلما تعاملت قبل عقود مع الصين الصاعدة؟ علماً أن الفرق كبير بين إيران والصين.
ما هو التحدّي الفعلي الذي تشكّله وشكّلته إيران لأميركا؟ التحدي الأساسي، في رأي باحثين أميركيين جدّيين، ليس “نوويّتها”، كما يعتقد كثيرون. ذلك أنها تعاطت في العقود السابقة مع دول نووية أكثر “جنوناً” من إيران، مثل روسيا ستالين، وكوريا الشمالية التي يحكمها كيم جونغ إيل، وصين ماو تسي تونغ. لكن بعض المسؤولين في “الأمن الاسرائيلي” يرى الخطر النووي الإيراني جدياً و”أولوياً” لأن دولة اسرائيل تعتز بكونها القوة النووية الوحيدة في المنطقة، ولأنها تعتبر أن إيران النووية تحدّ من قدرتها وقدرة أميركا، على العمل عسكرياً فيها من دون عواقب. إلا أن التحدّي الحقيقي كان، وربما لا يزال، الموقف الثوري والمتماسك الذي اتّخذته إيران منذ قيام الجمهورية الإسلامية فيها من الولايات المتحدة، والذي عبّرت بواسطته علانية وفعلاً وممارسة عن معارضة سيطرتها، ومعها اسرائيل، على الشرق الأوسط. هذا النوع من المواقف، استناداً إلى الباحثين الجدّيين أنفسهم، جعل أميركا تصنِّف إيران دولة “فاشلة” أو مارقة (Failed State) عقاباً لها على مقاومتها سيطرة النظام الاستراتيجي الأميركي في الشرق الأوسط. في الخمسينات من القرن الماضي وعلى 18 سنة، استحق الراحل جمال عبد الناصر رئيس مصر تصنيفاً مشابهاً. والأمر نفسه بالنسبة إلى راحل عربي آخر هو “قائد” ليبيا الراحل معمر القذافي. فضلاً عن أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وهو أحد أبشع المستبدّين في المنطقة، تحدّى أميركا أيضاً لكنه مثل القذافي خسر. و”الأسدان” الأب والابن كانا دائماً على لائحة التهميش الأميركية أو “لائحة الإخراج من السلطة” للسبب نفسه، وبقيا عليها عقوداً، لكنهما لم يٌعاقبا مثل الآخرين.
إلا أن ايران منذ عبد الناصر وحقبته، تبقى الدولة الأكثر أهمية التي تمارِس مقاومةً، بل عداء ظاهراً ورسمياً لأميركا، وتحدياً لقدرتها على العمل في المنطقة من دون عقاب. وقد أدخل خطف رهائن أميركيين عام 1979 عاملين في سفارة بلادهم في طهران، ولمدة طويلة، عاملاً عاطفياً قوياً إلى ردود الفعل في واشنطن بل أميركا على إيران.
ما الذي دفع الولايات المتحدة أخيراً إلى الانفتاح على إيران؟
يرى الباحثون الأميركيون الجدّيون أنفسهم أن واشنطن اعترفت، بعد ثلاثة عقود على اندلاع الثورة الايرانية ونجاحها واستمرارها وتحوّلها نظاماً قوياً ودولة جدية، بالمشكلات الصعبة والمعقّدة التي واجهت السياسات الأميركية على مدى سنوات كثيرة جراء العجز عن التعاطي مع دولة “فاشلة” أو مارقة. وقد أثّر ذلك على أفغانستان وباكستان وطرق النفط والعراق والخليج العربي الذي تسمّيه إيران وأميركا فارسياً وسوريا. كما كان له أثره في نشوء تنظيم “القاعدة” والتنظيمات الأخرى التي خرجت من رحمه لاحقاً. ولا يخفى هنا وجود نسبة غير قليلة من المصالح. ويرون ايضاً أنها وجدت نفسها مضطرة إلى نوع من تطبيع الحد الأدنى مع طهران، والموضوع النووي قادها اليه. والأكثر أهمية من ذلك كان الاعتراف بالحاجة إلى التعاطي أو التعامل مع ثاني أهم دولة استراتيجياً في المنطقة، باعتبار أن تركيا هي الدولة الأهم الأولى بحسب المقاييس الأميركية. ومن أسباب هذه الأهمية التي تتشارك فيها الدولتان رغم اختلاف المرتبة، بين أولى وثانية أنهما أهم دولتين وأكثر الدول شأناً في الشرق الأوسط اليوم، وأن هويّتيهما تستندان إلى تقاليد ضاربة في القِدم، وأن حجم شعبيهما كبير واقتصاديهما مركّبان ومتنوعان، وأنهما غنيتان بالمهارات المهنية. أما الحكم فهو في تركيا ديموقراطي وجزئياً ديموقراطي في إيران. فضلاً عن أن للدولتين تقاليد عريقة في استغلال السلطة وفي ممارسة قوة كبيرة ولكن ناعمة، وهذه القوة ستكبر بواسطة السياحة والصوفية والشعر والموسيقى وغير ذلك.
هل هناك عوامل أخرى دفعت أميركا إلى السعي إلى تطبيع جزئي مع أيران؟
نقلا عن صحيفة النهار اللبنانية