بعد أن حققت القوات الروسية والقوات المسلحة السورية تقدماً كبيراً في قتال تنظيم «داعش» وحلفائه في سوريا، خصوصاً في الشمال المتاخم للحدود مع تركيا، جرى الاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا (فقط) لتوقيع اتفاق هدنة في سوريا ورعاية وقف إطلاق النار تمهيداً لإطلاق عملية سياسية توقف شلال الدم المتدفق من الجسد السوري منذ خمس سنوات مريرة.
توقيت اتفاق الهدنة كان مفاجئاً شيئاً ما. كانت دول كثيرة تحاول حسم أمرها في المشاركة البرية في سوريا لقتال تنظيم «داعش» الذي يهدد تمدده كل الدول المحيطة بسوريا، بل وصل تهديده غير مرة إلى أوروبا، خصوصاً فرنسا. والاتفاق لم يشرك في الرأي مختلف الدول التي دخلت في تحالفات متعددة لقتال تنظيم «داعش»، واكتفت أمريكا وروسيا الاتحادية بإبرام الاتفاق باعتبارهما الدولتين الرئيستين في الحرب على التنظيمات الإرهابية في سوريا.
ولم تغفل الدولتان دور الأمم المتحدة، لكنهما جعلتاه في دور المرجعية لتصنيف المنظمات الإرهابية، وجعلته المظلة العامة للاتفاق، وهو دور شرفي على كل حال لا يرقى إلى الدور الذي كانت تضطلع به المنظمة في الترتيب للحوارات في جنيف بين النظام السوري ومعارضيه، ولا بدور مجلس الأمن في تتبع بعض قضايا الصراع في سوريا.
إذاً، لم يبق في الحضور الدولي في الأزمة السورية غير دور الدولتين العظميين، أمريكا وروسيا. وغير خاف أن الاتفاق أغضب تركيا تحديداً التي كانت أول المحتجين على التدخل الروسي، خصوصاً أن التدخل استهدف المناطق المتاخمة لها، وتحالف مع الأكراد لصد نفوذ «داعش»، وهو الأمر الذي يقلق تركيا دائماً حين يصبح للأكراد قوة مخالفة للطموحات التركية.
وأكثر ما يلفت الانتباه في بنود اتفاق الهدنة هو الهيمنة الروسية الأمريكية الكاملة على حركة السلم والحرب في سوريا. والتنسيق العالي بينهما الذي يصل إلى تقصي وتتبع عمليات خرق الهدنة، ما يعني أن الدولتين جادتان في وقف الحرب، ولو مرحلياً، إذ إن لعبة خرق الهدنات هي التسلية الممتعة لكل من يحب دخول دوامة تبادل الاتهامات وتصعيد التشكيك في النوايا الإنسانية تجاه السلام. اللافت أيضاً هو الاعتراف الواضح ب(القوات المسلحة السورية)، والإشارة إلى دوره في أكثر من بند من الاتفاق، وهو اعتراف بشرعية الجيش السوري وبمشاركته في محاربة الإرهاب. وهذه الإشارة، وبلا شك، تأتي تحت تأثير الدور الروسي الحليف للنظام السوري.
ويعزز من الاعتراف بالجيش السوري الاتفاق المشترك بين أمريكا وروسيا على التنسيق مع القوات المسلحة الروسية في محاربة الإرهاب التي تتضمن عدم إدراج «داعش» والنصرة والجماعات المصنفة في الأمم المتحدة بأنها إرهابية في قائمة الاتفاق على وقف إطلاق النار، والتنسيق مع الجيش السوري في تحديد المحيط الجغرافي لتلك الجماعات وحصارها ومحاربتها بشكل مشترك.
اتفاق الهدنة الأمريكي الروسي يضع القضية السورية في نصابها الصحيح، فقد طالت عملية (التمطيط)، ودخلت سوريا في مسارات عدة لا معنى لها. والاتفاق يكشف بجلاء أن القضية السورية قضية تدخلات قوى كبرى لها مصالحها.
وجاء التدخل الروسي العسكري المباشر ليرغم الطرفين الرئيسيين في القضية السورية (أمريكا وروسيا) على الجلوس معاً والاتفاق عسكرياً معاً. فبنود الاتفاق لم تشر لا من قريب ولا من بعيد إلى ما كان يسمى ب(المعارضة المعتدلة)‘ أو الثوار أو أي فصيل رابع يمكن التنسيق معه في الحرب السورية غير روسيا وأمريكا والقوات المسلحة السورية.
وأياً كانت نتائج الاتفاق الأمريكي الروسي على الهدنة في سوريا، فيكفي أنه أعاد القضية إلى الجذر الأساسي لها. وأن أطراف الصراع الكبرى اضطرت للتعامل مع بعضها بعضاً شخصياً، وبالإيحاء في بنود الاتفاق أن بقية الأطراف المشتبكة على الأرض السورية تخضع لنفوذ القوتين العظميين، وأن على كل منهما ممارسة تأثيره ونفوذه في الضغط على (جماعته) لإتمام الاتفاق وإنجاح الهدنة.
الخلاصة، أن العرب كلما ظنوا أنفسهم الفاعلين الحقيقيين في قضاياهم، شعوباًً أو حكومات، تأتي القوى الخارجية لتخترقهم وتعيد ترتيب الأحداث في اتجاه مصالحها، وبعيداً أن أي شعار (رومانسي) يتداوله العرب أملاً في الحرية والتحرر وبناء دولة الديمقراطية والعدالة.