مستقبل العملية السياسية في سوريا
سياسة الخداع والمصالح عندما توجه ضد طبيعة الأشياء، فإن لها ملامح التدمير والتحطيم، وحين نتأمل ما ورد بين السطور لكبار الكتّاب السياسيين ندرك أن الانطباعات لا بل القناعات التي تكونت لديهم تتلاحق وتتراكب بطريقة سينمائية، وأن الوجود الإنساني يتماهى فيه الفعل السياسي، لأن الأنا والأنانية لا تعيش بمعزل عن المصالح المادية والاقتصادية.
ويُستشف من ذلك أن التخطيط لتدمير سوريا نوع من ترابط مرعب لمنطق مؤامرة بائسة تنطلق من مصالح اقتصادية وسياسية، والقوة المادية مدفوعاً بتنافس تنافري، وبعيد كل البعد عن الاندماج والتعاون والمشاركة، وأن الهدف هو تفكيك البنى الاقتصادية، ونزع الصيغة العسكرية من خلال سياسة استنزاف ذاتية الدول باستنزاف أمنها وتدجينها، وضرب المقومات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبخاصة العسكرية، وتغذية العنعنات العشائرية والطائفية والعرقية، وردم المنابع الروحية التي تزود الأمم، وبخاصة الجيوش بالقوة المعنوية التي تعتبر الشرط الأساسي للإيمان بالدفاع عن الأوطان ضد المعتدين والمتطرفين.
ومن أجل تحقيق غاية الغايات هذه يستلزم تفتيت المنطقة العربية إلى دويلات طائفية وعرقية بما تحقق الضياع لهذه الدول والانعطاف نحو التناحر، ولا يتعاونون بل يتقاتلون، ولا يتشاورون بل يتآمرون، ولا يستمرئون إلا لحوم بعضهم بعضاً، وكل طائفة تتربص الدوائر بالطوائف الأخرى. ومن المفجع أن فيما قاله السيناتور السابق روبرت كينيدي يتبين أن الحرب الأهلية في سوريا قامت بهدف ضرب اقتصاد الكيان العربي.
قد تكون الحرب في سوريا مأساة بكل معنى الكلمة، وقد تكون أطول صراع في العصر الحديث، لكن خلف تلك الحرب تكمن مصالح استراتيجية عليا للدول العظمى في العالم، وهناك من يبسّط الصراع بقوله، إنه بين شعب مظلوم ونظام ديكتاتوري مستبد، لكن هل يستحق تغيير نظام في دولة ما كل هذا العدد من القتلى والمهجرين والجوعى واللاجئين؟. إن الحرب لا تختلف معانيها ولا أدواتها، ولا تنأى نيرانها على طفل أو كهل، هذه الحرب منذ خمس سنوات التهمت خلالها أعداداً لا تحصى من البشر، وشردت آخرين، وهجرت أضعافهم بما فيهم أطفال لم يعُوا بعد مفهوم التهجير القسري وعاشوا مآسي مفجعة، ليس أقلها أن بعضهم مات غرقاً في عرض البحر، وأصبحت أجسادهم الشريفة غذاء لوحوشه.
هل من أجل تغيير نظام تطمس معالم دولة ويقضى على شعب عربي كان يعيش في دعة وأمان؟ إن مما يُؤسف له أن معظم الناس ينجذبون لما تدعيه أبواق الإعلام الرهيبة، التي يتحكم بها بعض الشركات الغربية ذات المصالح.
ويلفت المفكر الأمريكي روبرت أف كينيدي، نجل السيناتور السابق روبرت كينيدي، والأستاذ الجامعي والناشط البيئي، نظرنا إلى أسباب رفض العرب للتدخل الأمريكي في سوريا، وتاريخ دسائس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه)، في منطقة الشرق الأوسط من أجل التحكم بالنفط ومفردات الجغرافيا السياسية، يقول في كتابه، حول الحرب في سوريا: «من وجهة نظر العرب لم تبدأ الحرب الأمريكية ضد بشار الأسد مع الاحتجاجات المدنية السلمية في إطار الربيع العربي، بل بدأت عام 2000 عندما تم اقتراح إنشاء خط أنابيب بطول 1500 كيلومتر، وبتكلفة عشرة مليارات دولار يمر عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا، وكان خط الأنابيب المقترح سيربط بين أسواق الطاقة الأوروبية مباشرة عبر خطوط توزيع في تركيا، وكان الاتحاد الأوروبي الذي يحصل على 30% من احتياطياته من الغاز من روسيا متعطشاً، وبنفس القدر، لخط الأنابيب حيث كان سيمدّ دول الاتحاد بوقود رخيص وراحة من نفوذ روسيا السياسي والاقتصادي، وكانت تركيا ثاني أكبر مستهلك للغاز الروسي متحمسة لإنهاء اعتمادها على روسيا خصمها التاريخي. وقد اعتبرت روسيا التي تبيع 70% من صادراتها من الغاز لأوروبا، خط الأنابيب هذا تهديداً وجودياً، بل مؤامرة من جانب الناتو لتدمير الوضع الراهن وحرمانها من موطئ قدمها الوحيد في الشرق الأوسط، وخنق اقتصادها، وإنهاء نفوذها في سوق الطاقة الأوروبية».
ويضيف: «يجب أن نعترف بأن الحرب في سوريا هي حرب للسيطرة على الموارد، ولا تختلف كثيراً عن الحروب السرية السابقة حول البترول الذي نقاتل من أجله في الشرق الأوسط طوال 60 عاماً، وفقط عندما نرى أن هذه الحرب هي حرب بالوكالة حول البترول تصبح الأحداث مفهومة وواضحة».
والواقع إن ما ذكره روبرت أف كينيدي قد يكون صادماً للكثيرين، لأن الحقيقة هي أن هذا الشعب ليس له يد فيما يجري، بل هو ضحية لحرب بالوكالة تجري على أرضه، فالنظام في سوريا هو وكيل روسيا، وجيش المعارضة هو وكيل الولايات المتحدة، ومؤخراً رجحت كفة النظام في المعارك الدائرة ما استدعى تدخلاً أمريكياً مباشراً لفرض هدنة لوقف القتال.
لقد شكل القرار 2254 الذي صدر عن مجلس الأمن في 19 ديسمبر/كانون الأول 2015، بارقة أمل، لأنه لأول مرة تتفق القوى الدولية على موقف واحد لإنهاء الصراع في سوريا عبر الحوار المباشر بين النظام والمعارضة، ورغم أن عملية التفاوض تعثرت قليلاً، لكنها عادت لتنطلق يوم الاثنين 14 مارس/آذار متزامنة مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب القوات الروسية من سوريا اعتباراً من الثلاثاء 15 مارس، ويوحي هذا القرار الروسي المفاجئ بأن تسوية سرية قد جرت بين روسيا والولايات المتحدة حول سوريا وربما حول غيرها من قضايا المنطقة، ومضمون هذه التسوية إنهاء الحرب بالوكالة بين الدولتين في سوريا، فلا مجال بعد اليوم لاستمرار القتال هناك إلا من أجل مكافحة الإرهاب المتفق عليه دولياً. ولعل الدولتين تريدان تسوية سياسية حقيقية تحقن الدماء وتنهي مأساة إنسانية ترويها دماء الأطفال وتشهد عليها أرواح المدنيين الأبرياء الذين حصدتهم آلة الحرب.