نون والقلم

محمود علام يكتب: «المقاولون العرب» من كفر عبده لمعهد الأورام

قبل البداية.. لابد من إهداء هذه السطور إلى روح المعلم المقاول المهندس عثمان أحمد عثمان مؤسس الشركة المصرية في أربعينات القرن الماضي  والتي طالها التأميم بعد قيام ثورة يوليو52 واستطاعت الوصول إلى العالمية انطلاقا من إنجازاتها المحلية وأصبحت صاحبة الانجاز الأكبر في قطاع المقاولات بعد مشاركتها في تنفيذ مشروع «السد العالي» رمز الكرامة الوطنية في زمن الشموخ القومي وعصر الكبرياء ….

وأوقن تماما أننا قد نختلف على الرأي حول الرجل في انتماءاته وفي مواقفه في حياته لكننا اليوم، وهو تحت الثرى، نتفق على أنه صاحب انجاز في مشروع وطني لا نزال نشعر بالفخر ونحن نستعيد تاريخ معاركنا ضد قوي الاستعمار القديم أيا كانت نتائج تلك المعارك التي لا تزال مستمرة رغم تغير الأدوار والأساليب في عصر العولمة الرهيب.

بعد هذه المقدمة التي فرضتها ظروف تسطير هذه المقالة أقول بكل ثقة أن الجميع يشعر اليوم بأن هذه الشركة الوطنية تستحق الإشادة والثناء بعد  تلك المبادرة الوطنية الرائعة من إدارة شركة «المقاولون العرب»  نحو معهد الأورام في منيل القاهرة بعد تعرض مبناه للدمار على أيدي طيور الظلام.

وتأتي أهمية المبادرة في سرعة إطلاقها وتنفيذها دون تأخير  في خطوة  غير مسبوقة حطمت بها كل قواعد الروتين الحكومي السائدة منذ عقود بعيدة.

إن هذه المبادرة التي انطلقت بالفعل من أجل ترميم مبنى معهد الأورام تؤكد أن الشركة التي أسهمت بدور كبير في المجهود الحربي وإزالة أثار العدوان قبل عقود من الزمان لا تزال حريصة على القيام بدورها الذي تأسست عليه وإن اختلف موقع الأداء ليصبح دورها رياديا في مجال إزالة آثار الإرهاب في مبادرة جعلت الكل يسير في نفس الاتجاه ولو كان عبر التبرعات بالأموال.

وبطبيعة الحال فالكل يعرف أن «المقاولون العرب»، هي شركة مقاولات مصرية تأسست عام 1955 على أيدي عثمان أحمد عثمان الذي شغل مناصب سياسية عدة منها انه كان وزيراً للإسكان في عهد الرئيس الراحل أنور السادات.

وعودة إلى عنوان المقال نستذكر ما سطرته أدبيات تلك الفترة التاريخية البعيدة والتي تشير إلى أن «تأسيس الشركة يعود إلى سنة 1940، يوم تخرج المهندس عثمان أحمد عثمان من كلية الهندسة، فكان متشبثاً بفكرة العمل الحر ليعمل كمقاول دون الارتباط بأي وظيفة حكومية حيث كانت الوظائف الحكومية متاحة وبمرتبات عالية تساعد على الحياة الكريمة لكنه آثر العمل الحر كمهندس مدني لتنفيذ المنشآت والمباني والكباري والطرق ومشاريع الصرف الصحي والمياه  وفى عام 1942 هدم المستعمرون الإنجليز مباني كفر أحمد عبده بالسويس التي كان يقيم فيها الفدائيون الذين يتصدون لمن استعمروا وطنهم الغالي فهدم الكفر الإنجليز وأسندت الدولة حينذاك  إلى المهندس عثمان مقاولة إعادة إعمار كفر أحمد عبده .

وتوالت الأحداث وسافر المهندس عثمان أحمد عثمان إلى السعودية وبعد جهد كبير حصل على عقود إنشاء الكلية الحربية بالرياض ومباني إيواء الجنود وكذلك أعمال قصور بالطائف، ومن هنا بدأت الشركة تكبر ويكبر معها عثمان أحمد عثمان.

وحتى تدرك الأجيال الشابة  نستعيد حديث المعلم عثمان أحمد عثمان عن انجازه الأكبر وعناه قال:« وقفت طويلاً أمام تجربتي في السد العالي أتأمل أحداثها وأسترجع مشاهدها وتساءلت كثيراً: كيف استطعت أن أجتاز تلك المرحلة سالماً لقد واجهت هناك خصوما، وخضت أكثر من معركة على أكثر من جبهة، وفى وقت واحد وكأن الجميع تحالف ضدي لكني وقفت وحدي أتحدى معتمداً على  « إن الله يدافع عن الذين آمنوا » واستعنت بالله وكان فضل الله على عظيماً ورغم أن العمل في السعودية كان  يسير على قدم وساق لكن تفكيري وأنا هناك كان يذهب إلى ضرورة أن أعود إلى أرض مصر لنبدأ منها المشوار ولكن من أين؟ وكيف؟ ووقفت عند ذلك السؤال إلى أن طالعتني الصحف ذات يوم بإعلان يقول: إن وزارة الري المصرية تطلب من المقاولين المصريين تكوين اتحادات كبيرة فيما بينهم لكي يتقدموا من خلالها في عطاء تنفيذ السد العالي ووجدت في ذلك فرصة مناقشة الموضوع مع زملائي القائمين على أمر الشركة معي  وأذكر أننا عقدنا اجتماعاً لذلك الغرض وكان الاجتماع في إحدى ليالي شتاء عام 1960 وأغلق الجميع الباب في وجه الفكرة بالضبة والمفتاح ».

وفي نقطة أخرى من الحديث قال عثمان: «عدت أكثر من مرة لمناقشة الموضوع معهم فرادى ومجتمعين وشرحت لهم أن عملية كبيرة جداً ومتعددة الأبعاد السياسية والاقتصادية وأن مصر دخلت في تحديات كبيرة بخصوصها وقامت حرب 1956 بسببها وأن مصر تعلق أمالاً كبيرة على المشروع والذي شد كل أنظار الدنيا إليه وكان أن عددت لهم أيضا الفوائد التي تعود على شركتنا عندما يرتبط أسمها باسمه وتقوم بتنفيذ حجم العمل الكبير فيه والذي وجدت فيه فرصة تسمح لشركتنا بأن يتسع حجم نشاطها ودائرة أعمالها وخبرتها بما يؤكد قدرتها على تنفيذ المشروعات الكبيرة حتى وافق الجميع بشرط أن أتحمل أنا كل ما يمكن أن يحدث من تبعات ووافقت وتقدمت لهذا العطاء وكان المتنافسون على كسب العطاء طرفين جميع مقاولي مصر في طرف وشركة عثمان أحمد عثمان في طرف آخر حتى حدثت المفاجـأة المذهلة حين  دعانا المهندس موسى عرفه «رحمه الله» في 12 يناير سنة 1961 إلى جلسة فتح المظاريف وكان يشغل وقتها منصب وزير الري والسد العالي وفى تلك الجلسة كانت المفاجأة التي زلزلت كل كيان أباطرة المقاولات في مصر في ذلك الوقت حيث تم فتح مظروفي فوجد عطائي خمسة عشر مليون جنيه وعندما فتح مظروفهم وجد أن عطائهم سبعة وعشرين مليون جنيه وكان الفارق شاسعاً وكان أن فزت بالمشروع  وذهبت إلى موقعه في أسوان حيث بدأت أنا وستة مهندسين من شركتي بنصب خيمة وأحضرنا «زير» لكي نشرب منه وتوالى بعد ذلك توافد القوى الضاربة للمقاولون العرب مهندسين وفنيين وملاحظين وعمال وسائقين وتوسعنا في عدد الخيام المطلوبة وأحضرنا عدداً كبيراً من « الأزيار» لكي يشرب من مائها الرجال، حيث أمضينا سنه كاملة من العمل الشاق المضني وتسببت ضخامة إنتاجنا في أن ينزعج الروس وكان أن ركزت كل همي على ضرورة تحقيق أكبر قدر من الإنجاز لإثبات أنفسنا وقدرة أبناء وطننا وكان أن أستوعب حجم العمل في السد العالي أكثر من 35 ألف رجل كانوا يعملون بشكل متواصل أربعاً وعشرين ساعة كل يوم .

ولا تزال في قصة السد العالي الكثير من الإشارات حول مفاهيم الوطنية الحقة ودورها في تحقيق الإنجاز بحسن الأداء الذي يعبر عن أعلى درجات الانتماء والوفاء دون ضجيج الهتاف بالشعارات .

 

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى