نون لايت

محمد عيد يكتب: كبرت يا أبي

(1) جانا العيد أهه جانا العيد

صوت المذياع القديم المرتفع يأتي من خلف الشباك المنخفض، أطفال العائلة يجتمعون في الشارع ويبدءون خطة اللعب، ويسردون حكاويهم عن ألوان الملابس، والحذاء الجديد الذي اشتراه الوالد، على مرمى البصر، آتى المغتربون، الأعمام والأخوال وأبنائهم، على أكتافهم شنط السفر، آتوا من بلاد الحضر إلى أراضي الريف العظيم، إلى الفلاحين كما يقولون لذويهم في الهاتف عندما يهاتفوهم ليطمئنوا عليهم.. ويبادلوهم التهاني والتبريكات بالأعياد، ويوصونهم بجلب «الجبنه القديمة – الفطير المشلتت – الجبن القريش – والعيش الفلاحي».

ينطلق الأبناء نحو الشارع، يحتضن كل منهم الآخر، وتنطلق السيدات نحو المطبخ لتساعدن بعضهن في تجهيزات الإفطار، إنها شعائر يوم الوقفة.

تجتمع العائلة.. ويروي الأخ لأخيه كيف اشتاق للبلد وهدوئها، ويعيش الآخر حالة الفخر، صاحب المكان، ومالك ما يحتاجه الأول ويتمناه، إنها عزة الامتلاك، ونصرة الانفراد، وينتقل الحديث عن المدينة وبلاد الحضر وكيف يعيشون، فيشعر بما شعر به الثاني…

(2) تسلم أيدك يا أم محمد

جملة لا ينتهي اللسان أبدًا عن نطقها طوال 3 أيام العيد، الجو جميل ومنظر الخضرة حلو، و فاكر زمان والأرض ولما كنا نتجمع في الغيط؟، روايات مكررة لا نمل منها أبدًا، في كل مرة ترسم البسمة على وجوهنا، ويفرح القلب بالغوص في خيالاتها التي لم نعشها معهم أبدًا.

تُرى ما هو المميز في هذا البلد الفقير المعدم من كافة الخدمات والمتطلبات الأساسية وكذلك وسائل الترفيه وما ينعم به بلاد البندر كي يشتاق إليها الوافدون كل هذا الاشتياق وكل هذا الحب اللامع في أعينهم؟!.. ثمة أمر لا نعلمه، تُرى ما الذي بدّل حال ألسنتهم من اللسان الفلاحي في نطق الأحرف والكلمات، ويتكلموا بـ “لسان معوج”.. ثمة أمر غريب..

(3) كبرت يا أبي

اليوم، وأنا أودع بلدتي لأعود إلى العاصمة لأستأنف عملي، وعبر نافذة السيارة، شاهدت بلدتي وكأنني أول مرة أراها، رغم أنني لم أنقطع عنها، لكنني أصبحت غريبًا، بعدما باتت زياراتي في العام معدودة إلى هناك، الأيام تفوت وتروح وإحنا ولا حاسين، كبرت يا أبي وأصبحت «أرطم بالمعوج» أقول آه وأيوا، وأشتاق لأكل أمي، أشتاق لطا جن الأرز والفطير والجبنه القديمة والمش والجلوس على المصطبة أمام الترعة، والشرب من الزير والقلة، كبرت وأصبحت أحن لبلدتي، وأفتقد الأجواء والمناخ والمناظر الخلابة، وأتكلم عنها وكأنني قادم من بلاد الفرنجة، افتقد حتى راحة النوم في الفرانده على الحصير البلاستيك، أصبحت أسلم على أهل البلدة وأشعر بأنني غريب عنهم، وأشتاق لحديثهم عن أيام زمان..

كبرت يا أبي وكأن أيامي القليلة هنا في زحمة العاصمة، اختزلت الـ 26 عامًا في صندوق صغير أراه في تلك الشمس التي تحتضن الأراضي بنورها، والبيوت الصغيرة البسيطة، فيضيء اللون الأخضر المبهج، وتلمع فيه نجوم السيدات الكادحات في السابعة صباحًا وهي تساعدن أزواجهن في أعمال الحقل وتعقد اللفافة على رأسها وتحمل ما تحمله بفن وبراعة ولا أجدع بهلوان في السيرك، ولا أجمل سندريلا تسير بفستان وسط حديقة قصر الملك.. كبرت يا أبي وكبر سني قبل فوات الأوان.. كبرت وأصبحت أشتاق وأشتاق و أشتاق.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى