نون والقلم

محمد عبد المجيد هندي يكتب: الأمة العربية بين نيران التحديات والمؤامرات.. كيف ننتصر؟

لم يعد خافيًا على أحد أن العالم العربي يعيش واحدة من أعقد المراحل في تاريخه الحديث، حيث تتفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بشكل غير مسبوق، في وقت تزداد فيه الضغوط الخارجية والتدخلات التي تستهدف تفكيك ما تبقى من كيان هذه الأمة. لقد تحول الوطن العربي إلى ساحة صراع مفتوحة، يُدمر اقتصاده، وتنهب ثرواته، وتُشعل فيه الفتن، وتُفرض عليه سياسات لا تخدم إلا مصالح القوى الكبرى، بينما شعوبه تعاني الفقر والبطالة والتهميش، وقادته ما بين متخاذل أو عاجز أو خاضع لضغوط خارجية

إن الحديث عن أزمات العالم العربي لم يعد مجرد ترف فكري أو تحذير من خطر قادم، بل أصبح واقعًا يعيشه كل مواطن عربي يوميًا، فالاقتصاد منهك، والسياسات فاشلة، والتعليم في حالة انهيار، والصحة في تراجع، والأمن القومي مهدد، والأوضاع الاجتماعية باتت قابلة للانفجار في أي لحظة. كل ذلك في ظل استمرار المؤامرات الخارجية التي تهدف إلى إبقاء المنطقة في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، عبر حروب الوكالة، والديون التي تكبل الحكومات، والتحكم في مقدرات الشعوب من خلال أدوات الهيمنة الاقتصادية والسياسية.

المشهد العربي: نزيف مستمر وانهيار متواصل

إذا نظرنا إلى خريطة الوطن العربي اليوم، سنجد أنها لم تعد تشبه تلك التي كانت عليها قبل عقود قليلة. سوريا التي كانت دولة قوية بجيشها واقتصادها وثقافتها تحولت إلى أنقاض، وليبيا التي كانت غنية بثرواتها النفطية أصبحت ساحة مليشيات تتقاتل على فتات السلطة، واليمن الذي كان سعيدًا بات اليوم بين فكي الحرب والجوع والمرض.

العراق الذي كان مركزًا للحضارة والقوة العسكرية أصبح ساحة نفوذ مقسمة بين قوى إقليمية ودولية. لبنان يترنح على شفا الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، في ظل غياب تام لأي حلول حقيقية. فلسطين تنزف يوميًا تحت الاحتلال، بينما العالم يتفرج وبعض العرب هرولوا للتطبيع وكأن القضية لم تعد تهمهم

أما مصر، التي كانت دائمًا قلب الأمة النابض، فهي تواجه تحديات غير مسبوقة. الاقتصاد يعاني من تبعات الديون المتراكمة، والاعتماد على الاستيراد جعلنا رهائن لأسواق خارجية، والتصنيع المحلي تراجع بشكل خطير. الفلاح الذي كان عماد الأمة أصبح يعاني من سياسات زراعية خاطئة جعلته عاجزًا عن الإنتاج، بينما الأسواق تغرق بالمحاصيل المستوردة.

المشروعات الاستهلاكية تتزايد، في حين أن المصانع تُغلق، والتعليم أصبح في حالة يرثى لها، مما يهدد مستقبل الأجيال القادمة. إن مصر اليوم مطالبة بأن تعيد بناء اقتصادها على أسس حقيقية، بعيدًا عن الحلول المؤقتة والسياسات الترقيعية التي لا تساهم سوى في تأجيل الكوارث بدلًا من حلها.

لماذا وصلنا إلى هذا الوضع الكارثي؟

المتأمل في المشهد العربي يدرك أن الأزمات التي نعيشها لم تكن وليدة اللحظة، بل هي نتيجة سياسات خاطئة استمرت لعقود طويلة، وانحراف عن مسار الاستقلال الحقيقي، وغياب الرؤية الاستراتيجية التي تضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار. فقد تركت معظم الدول العربية مصيرها الاقتصادي بأيدي المؤسسات المالية الدولية، التي فرضت شروطًا قاسية تحت مسمى «الإصلاح الاقتصادي»، لكنها في الحقيقة كانت سياسات إفقار وتجويع جعلت الحكومات عاجزة عن اتخاذ قرارات سيادية مستقلة. لم يعد القرار الاقتصادي في يد الشعوب، بل بات مرتهنًا لإملاءات الخارج، وتحولت الديون إلى سلاح سياسي يُستخدم للضغط على الدول وإجبارها على تمرير سياسات لا تخدم إلا مصالح القوى المهيمنة.

الصناعة الوطنية تم تدميرها بشكل متعمد في العديد من الدول العربية، فتم إغلاق آلاف المصانع بحجج واهية، وتحولنا إلى أسواق استهلاكية كبرى تستورد كل شيء، من الإبرة إلى الطائرة، رغم أن لدينا الموارد والعقول والإمكانات التي تتيح لنا أن نكون دولًا صناعية قوية. القطاع الزراعي لم يكن أفضل حالًا، حيث تم استبدال السياسات الداعمة للفلاحين بإجراءات تخدم المستوردين، فانهارت الزراعة المحلية، وأصبحنا نعتمد على استيراد الغذاء من دول أخرى، مما جعل أمننا الغذائي في خطر دائم. ومع كل ذلك، استمر الإنفاق ببذخ على مشاريع لا تقدم أي فائدة حقيقية للمواطن، في وقت تتزايد فيه البطالة، ويتفاقم فيه الفقر، وتنهار فيه الطبقة الوسطى التي كانت دائمًا صمام الأمان لأي مجتمع

على المستوى السياسي، عانت الدول العربية من انقسامات حادة، وصراعات داخلية لم تؤدِ إلا إلى مزيد من الضعف والتبعية. لم يعد هناك مشروع عربي موحد، ولم تعد هناك رؤية مشتركة لمواجهة التحديات. بدلًا من بناء تحالفات عربية قوية تحمي الأمن القومي للمنطقة، أصبحنا نرى دولًا عربية تتحالف مع أعداء الأمة، وتفتح أبوابها لمشاريع مشبوهة تهدف إلى ضرب استقرار المنطقة. بينما الإعلام العربي بات مسيطرًا عليه من قبل قوى تريد تغييب الوعي، وتحويل الشعوب إلى مجرد مستهلكين غارقين في قضايا تافهة لا علاقة لها بمصيرهم ومستقبلهم

ما المطلوب للخروج من هذا النفق المظلم؟

إذا كنا نريد أن نخرج من هذه الدوامة القاتلة، فلا بد من اتخاذ قرارات حاسمة وجريئة تعيد ترتيب الأولويات وتضع مصلحة الشعوب فوق كل اعتبار. لا يمكن أن تستمر الدول العربية في هذا النهج المدمر الذي يجعلها رهينة للضغوط الخارجية، ويجعل مصيرها مرهونًا بمصالح قوى لا تريد لها الخير. المطلوب اليوم هو إعادة بناء الاقتصاد العربي على أسس جديدة، بعيدًا عن التبعية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والاعتماد على مواردنا الذاتية لتحقيق تنمية حقيقية. لا بد من إطلاق مشاريع صناعية وزراعية ضخمة تجعلنا قادرين على تحقيق الاكتفاء الذاتي، ووقف نزيف الاستيراد الذي ينهك اقتصاداتنا

لا بد من تشكيل تحالف عربي حقيقي يقوم على التعاون الاقتصادي والعسكري والسياسي، وليس مجرد لقاءات شكلية لا تقدم ولا تؤخر. لا بد من استعادة سيادة القرار العربي، بعيدًا عن أي ضغوط خارجية، وإعادة بناء المؤسسات التعليمية والإعلامية على أسس تخدم مصلحة الشعوب، لا على أسس تخدم أجندات خارجية. يجب أن يتوقف الإنفاق على المشاريع الاستهلاكية غير المنتجة، وتوجيه الموارد إلى بناء بنية تحتية حقيقية للصناعة والزراعة، مع دعم البحث العلمي والتطوير التكنولوجي

لا خيار أمامنا إلا أن نتحرك الآن، فإما أن نصنع مستقبلنا بأيدينا، أو نبقى أبد الدهر أسرى الماضي وأخطائه، ننتظر قرارات تُفرض علينا من الخارج، بينما شعوبنا تغرق في الفقر والضياع. لقد آن الأوان أن نستعيد سيادتنا على مقدراتنا، وأن نوقف مسلسل الانهيار قبل فوات الأوان. فإما أن نكون أمة قادرة على النهوض والصمود، أو نبقى مجرد كيانات هشة تتلاعب بها القوى الكبرى كما تشاء.

القيادي العمالي المستقل، مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى