
محمد عبد المجيد هندي يكتب: إعلامُ السفهاء وحصارُ العلماء طريقٌ لانهيارِ الأوطان
عندما يُسلَّط الضوء على كلام السفهاء ويُحجب فكر العلماء، فلا تنتظر إلا الخراب. نحن أمام مشهدٍ إعلاميٍّ يثير الدهشة والذهول، حين نجد الشاشات تعجُّ بمن لا يملكون فكراً ولا رؤيةً ولا قدرةً على تقديم طرحٍ يُسهم في بناء وطن، بينما يُقصى العلماء والمفكرون الحقيقيون الذين لديهم القدرةُ على انتشال البلاد من أزماتها المتلاحقة.
إنّ الإعلام المصري أصبح ساحةً مفتوحةً لمن يُتقن الثرثرة دون مضمون، لمن يردد الشعارات دون دراية، لمن يملأ الوقت بكلامٍ أشبه بالسراب، بينما تغيب العقول التي تمتلك مفاتيح التنمية والتقدم والنهضة.
نحن لا نفتقد العقول التي تستطيع النهوض بمصر وتحقيق الاكتفاء الذاتي، بل نفتقد بيئةً إعلاميةً تفتحُ لها الأبواب وتُتيح لها المجال لتقديم أفكارها.
لدينا علماء في الزراعة يستطيعون تحويل أراضينا إلى واحاتٍ تنتج ما نحتاجه من غذاء دون الحاجة إلى استيراد ما يُستنزف به احتياطي الدولة من العملات الأجنبية. لدينا خبراء في الصناعة قادرون على بناء منظومة صناعية وطنية تجعلنا ننافس الدول الكبرى. لدينا عقول في الاقتصاد تستطيع رسم خارطة طريقٍ للخروج من نفق الديون والتبعية، ولكن أين هم من شاشات الإعلام؟ أين أصواتهم من البرامج الحوارية؟ لماذا يُمنع صوت العقل والفكر المستنير ويُسمحُ فقط لمن يتقنُ فنّ التنظير والتضليل؟
الإعلام ليس ترفيهاً وليس ساحةً لاستعراض الفارغين من الفكر والعلم. الإعلام سلاحٌ في معركة بناء الوطن، فإذا استخدمناه بشكلٍ خاطئ، أصبح سلاحاً يُدمر الوعي ويفتح الباب أمام التدهور والانهيار.
إنّ ما نشهده اليوم من تغييبٍ متعمدٍ للعقول المفكرة واستبدالها بأشخاصٍ يفتقدون الحد الأدنى من المعرفة والرؤية هو جريمةٌ في حق الوطن. مصر التي أنجبت أحمد زويل، ومجدي يعقوب، وعلي مصطفى مشرفة، وغيرهم من العقول التي أبهرت العالم، لم تعجز عن إنجاب علماء جدد، لكنها باتت عاجزةً عن منحهم مساحةً لعرض أفكارهم ورؤاهم.
كيف نتحدث عن تنميةٍ مستدامة ونحن نعيش في دوامةٍ إعلاميةٍ تروج للاستهلاك بدلاً من الإنتاج؟ كيف نتحدث عن اكتفاءٍ ذاتيٍّ ونحن نرى حملات الترويج للمنتجات المستوردة، بينما يتم تجاهل الصناعات الوطنية وحرمانها من الدعم الإعلامي الذي تحتاجه؟ كيف نُقنعُ الفلاح المصري بأنّ جهده مقدَّرٌ وهو لا يرى أحداً من العلماء المتخصصين في الزراعة يُعطى الفرصةَ للحديث عن تطوير القطاع الزراعي وتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الاستراتيجية؟
إنّ تغييب العقول المفكرة عن المنابر الإعلامية هو تواطؤٌ ضد الوطن، تواطؤٌ لصالح قوى تريد إبقاءنا في دائرة التبعية. حين نُقصي العلماء ونسلط الضوء على الجهلة، فإننا بذلك نضع أقدامنا على طريق الانحدار.
الإعلام الذي يجب أن يكون منارةً للوعي أصبح في كثيرٍ من الأحيان أداةً لتشتيت العقول وتشويه الحقائق. أصبحنا نرى الضجيجَ يُغطي على صوت العقل، ونسمعُ الشعارات الجوفاء تعلو فوق صوت العلم والحكمة.
إنّ نهضة الأمم تبدأ من الفكر والإبداع والابتكار، وإذا استمر الإعلام في منح المساحة لمن لا يملكون رؤيةً تنمويةً حقيقيةً، واستمرَّ في تجاهل العقول التي تُبدع وتُفكر وتُخطط، فإنّنا سنظل ندورُ في حلقةٍ مفرغةٍ من الأزمات المتكررة.
مصر ليست بحاجةٍ إلى مهرجاناتٍ إعلاميةٍ خاويةٍ من المضمون، بل تحتاجُ إلى منابر إعلاميةٍ جادةٍ تفتحُ أبوابها للعقول الوطنية الصادقة التي تحملُ في فكرها مشروعاً وطنياً حقيقياً يُخرجُ البلاد من أزماتها.
نحن في مرحلةٍ فارقةٍ، ولا نملك رفاهية الوقت. التحديات التي تواجه مصر على كافة المستويات تحتاج إلى مواجهةٍ إعلاميةٍ مسؤولة. نحن بحاجةٍ إلى إعلامٍ وطنيٍّ واعٍ يُعيد ترتيب أولوياته، ويضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. إعلامٍ يُعطي الأولوية للصناعة والزراعة والإنتاج بدلاً من استهلاك الوقت في نقاشاتٍ عبثيةٍ لا تُغني ولا تُسمن من جوع.
نحن بحاجةٍ إلى إعلامٍ يُسلط الضوء على قصص النجاح، ويُبرز النماذج الوطنية التي تعمل بصمتٍ في مصانعها وحقولها ومعاملها ومختبراتها.
المرحلةُ تتطلبُ قراراً حاسماً من الدولة: لا بدَّ من فتح المنابر الإعلامية أمام العلماء والمتخصصين والخبراء، لا بدَّ من إعادة صياغة الرسالة الإعلامية بحيث تصبحُ محفزاً للإنتاج والتنمية والابتكار، لا بدَّ من وقف هذا النزيف الإعلاميّ الذي يُضيّعُ الوقتَ في مناقشةِ قضايا هامشيةٍ بينما قضايا الوطن الأساسية تُركنُ جانباً.
إنّ استمرارَ هذا العبثِ الإعلاميّ يُعدُّ خطراً على الأمن القومي. لا نهضةَ مع تغييبِ العلم، ولا تقدمَ مع تهميشِ العقول، ولا أمنَ قوميًّا مستداماً مع الاستمرارِ في تقديمِ التافهينَ وإقصاءِ المبدعين. إذا أردنا بناء مصر الحديثة، فلا خيارَ أمامنا إلا استعادةُ الإعلامِ الوطنيّ الحقيقيّ، الإعلامِ الذي يُعلي من قيمةِ العملِ والإنتاجِ والفكرِ المستنير.
إلى متى سيظلُّ إعلامنا يُديرُ ظهره للعلماءِ والمفكرين؟ إلى متى ستظلُّ شاشاتنا تنشغلُ بما لا يُفيدُ وتُهملُ ما يُبني ويُعمّر؟ إذا لم نتدارك هذا الخطأَ سريعاً، فسنُضيعُ على مصرَ فرصتهاَ الحقيقيةَ للنهوض. إنّ مصرَ قادرةٌ على أن تكون دولةً قويةً مكتفيةً بذاتها، لكنها بحاجةٍ إلى إعلامٍ وطنيٍّ مسؤولٍ يضعُ مستقبلَ الوطنِ نصبَ عينيه، لا إعلامٍ يُلهي الناسَ ويُغيبُ الوعيَ ويُقصي العلماءَ ويُقدّمُ السفهاء.
قيادي عمالي مستقل
مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين