نون والقلم

لا تتحقق مصالحة إلا إذا تغيّرت النفوس

يتحدث الآن كل أهل السياسية في العراق ومعهم من قادة المجتمع الدولي عن المصالحة ومشاريع تسوية, لكن يا ترى هذه المصالحة هل هي عامة وشاملة لكل أطياف المجتمع العراقي ؟ أم هي محصورة فقط بين الكتل والأحزاب السياسية الحاكمة ؟ فإن كان الحديث عن مصالحة في ما بين السياسيين فهذا يعني إنا مجرد حبر على ورق أو مشروع يراد منه دعاية انتخابية مبكرة, إذن إن لا توجد هناك أي مصالحة سياسية بين السياسيين لأنهم دائماً وأبداً في حالة تخاصم وكثيراً ما يعتمدون على إبراز أخطاء ومساوئ بعضهم بعضاً في كل الأوقات وتحت كل الظروف ويسعون لتمييز أنفسهم وسياساتهم عبر إبراز الخلافات أمام الرأي العام حتى وإن كانت غير عميقة, حتى إن مشروع المصالحة أو التسوية صار عرضة لهذه الخلافات, فهناك من أعترض عليه ليطرح مشروعاً آخر مشابه له من حيث المضمون لكن يختلف من حيث ترتيب الأولويات, والسبب في ذلك هو السعي للحصول كما بينا المكسب الانتخابي المبكر على أقل تقدير بغض النظر عن المكاسب الأخرى التي لا يعلم بها إلا أصحاب الشأن.

فقد أغفل ساسة اليوم – عمداً أو سهواً – إن المصالحة تعني التضحية بالحقوق والعفو عن المتجاوزين الذين اضطرتهم الظروف السائدة في فترات سابقة إلى ارتكاب أعمال غير لائقة إنسانياً أو تعدي على حقوق الآخرين, وهي تعني تقبل الآخر من أجل بناء مجتمع حضاري متقدم يوافق تطلعات الجميع دون النفخ في نار الثأر وإقصاء الآخرين بحيث تكون ضلالها عامة, أي تعم كل أطياف المجتمع العراقي دون استثناء ولا تكون محصورة بين الطبقة السياسية فقط وفقط في العراق هناك من يسعى لتعميق الهوة بين أبناء المجتمع متوهماً أنه بذلك ينفع حزبه أولاً وطائفته ثانياً ولا يحمل هم باقي الطوائف والشرائح، ويتصور إنه يحقق بطولة طائفية، بينما البطولة الحقيقية هي في القدرة على الصفح والتجاوز عما حصل في الماضي من أجل المستقبل, والتجارب التي حصلت في الدول المتقدمة خير شاهد وهي كثيرة إذ لم يلتفتوا للماضي الذي كان لهم خير درس لبناء المستقبل, وجعلوا من المصالحة التي تعني العفو والتضحية ونسيان الماضي هي العنوان والشعار لبناء دولهم ومجتمعاتهم.

وبما إن الأعم الأغلب من الأحزاب الحاكمة في العراق هي أحزاب إسلامية – ظاهراً – و تدعي أنها تطبق الإسلام فلماذا نجدها بعيدة كل البعد عن نهج الذي اتبعه النبي محمد « صلى الله عليه وآله وسلم » في المصالحة والعفو, ألم يعفو عمن آذوه وشهروا السيف بوجهه الشريف و كل من عادوه وحاربوه, ولنا أنموذجاً آخر من نماذج المصالحة وهو من أكبر وأوضح الدروس لقادة وشعب العراق سنتهم وشيعتهم, وهي المصالحة التي حصلت بين الإمام علي «عليه السلام» وبين الخليفة أبو بكر والخليفة عمر « رضي الله عنهما » كما بينها المرجع العراقي الصرخي في المحاضرة السابعة عشرة من بحث ( الدولة المارقة في عصر الظهور منذ عهد الرسول « صلى الله عليه وآله وسلم») مستدلاً برواية السيدة عائشة « رضي الله عنها» التي جاءت في كتاب « المغازي » للبخاري وكتاب « الجهاد والسير » لمسلم.

الرواية : {{ ..عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ بِنْتَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِى بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم ..فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ عليها السلام مِنْهَا شَيْئاً فَوَجَدَتْ(غَضِبَت) فَاطِمَةُ عليها السلام عَلَى أَبِى بَكْرٍ في ذَلِكَ فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ، دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِىٌّ عليه السلام لَيْلاً، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهَا عَلِيّ عليه السلام، وَكَانَ لِعَلِىٍّ مِنَ النَّاسٍ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ عليهما السلام، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ اسْتَنْكَرَ عَلِىٌّ عليه السلام وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ تِلْكَ الأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ أَنِ ائْتِنَا، وَلاَ يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ، كَرَاهِيَةً لِمَحْضَرِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَيْتَهُمْ (وَمَا عَسَاهُمْ) أَنْ يَفْعَلُوا بِى، (إنّي) وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِىٌّ عليه السلام فَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ(فَضِيلَتَكَ)، وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْراً سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ(استوْلَيتَ وانفرَدْتَ) عَلَيْنَا بِالأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى(حقّا) لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم نَصِيباً، (فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُ أَبَا بَكْرٍ) حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ(رض)، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ:وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم أَحَبُّ إِلَيّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ،عن البيعة والحق والإمامة وإنّما يتحدّث عن الأموال) فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الْخَيْرِ (فَإِنِّى لَمْ آلُ فِيهِ عَنِ الْحَقِّ)، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْراً رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلاَّ صَنَعْتُهُ، فَقَالَ عَلِىٌّ عليه السلام لأَبِى بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةُ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُهْرَ رَقِىَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِىٍّ عليه السلام، وَتَخَلُّفَهُ عَنِ الْبَيْعَةِ، وَعُذْرَهُ بِالَّذِى اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ، وَتَشَهَّدَ عَلِىٌّ عليه السلام فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِى بَكْرٍ، و(حَدَّثَ) أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِى صَنَعَ نَفَاسَةً (حسدا) عَلَى أَبِى بَكْرٍ، وَلاَ إِنْكَاراً لِلَّذِى فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِى هَذَا الأَمْرِ نَصِيباً، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا (فَاسْتُبِدَّ عَلَيْنَا بِهِ)، فَوَجَدْنَا (أي: غضبنا) فِى أَنْفُسِنَا، حصل فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا: أَصَبْتَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِىٍّ عليه السلام قَرِيباً، حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ الْمَعْرُوفَ}}.

وهنا علق المرجع الصرخي ليبن المصالحة التي حصلت بين الخلفاء والامام, بقوله :

{{… (8) الرواية لم تحدد بالضبط الفترة الزمنيّة التي وقعت فيها الحادثة بل ذكرت أنّها بعد وفاة الزهراء عليها السلام، لكن بعدها بِكَم؟ بأيام أو أسابيع أو أشهر أو لسنة أو سنتين؟! الله أعلم، وكلما كانت الفترة الزمنيّة أطول وتقترب من السنتين فإنّه يترجّح أكثر وأكثر احتمال عَمَلِ جُنْدِ العَسَل السَّمِّ الأموي في اغتيال الخليفة الأوّل (رضي الله عنه) لأنّ المصالحة مع عليّ وأهل بيت النبي عليهم الصلاة والسلام تحطّم أحلامَهم في النَزْوِ على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتسلّط على رقاب المسلمين.

(9) لا أجد بيعة في هذا النص!! إنّها مُصالحة، هذا حسب رأي واعتقادي فمن يقتنع بما أقول فأهلًا وسهلًا ومن لا يقتنع فأيضًا أهلًا وسهلًا, تجسد معنى: لك رأيُك ولي رأيي، وأحترم رأيَك وتحترم رأيي، وندعو للتعايش السلمي بين الناس، هذا هو المنهج وهذا الذي حصل بين الخليفة الأوّل والثاني وعلي سلام الله عليهم، فأنا لا اعتقد بوجود بيعة لكن حصلت مصالحة, التفت جيدا: عندما واعده على العشية للبيعة، فهذا يعني إنّه في نفس الجلسة لم تحصل بيعة وانتهى الأمر, لاحظ جيدًا أنّ الحوار الذي حصل في دار عليّ عليه السلام انتهى بالقول {مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةُ لِلْبَيْعَةِ} يعني أنّ الحوار والجلسة انتهت فلم تنعقد بيعة فالكلام والحوار الذي دار لا يُعتَبَر بيعة ولهذا أعطاه موعدا للبيعة عند العَشِيّة، ولاحظ أيضًا كلام علي عليه السلام عندما رقِيَ المنبر بعد أبي بكر فإنّه لم يخرج عن المعنى الذي حصل في داره بل كان كلامه فيه ما يعتقده ولا زال يعتقد من الحقّ في الخلافة فأتى به بصيغة المضارع وليس الماضي فقال عليه السلام { وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِى هَذَا الأَمْرِ نَصِيباً، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا (فَاسْتُبِدَّ عَلَيْنَا بِهِ)، فَوَجَدْنَا فِى أَنْفُسِنَا}، انتهى كلامه إلى هنا وفورًا كان رد المسلمين بقولهم{أَصَبْتَ}، انتهى كل شيء, فلا يوجد بيعة أو ما يدل على البيعة، نعم حصلت مصالحة ومن نتائجها صار علي عليه السلام يحضر في مجالسهم ويدخل في الحوار والنقاش والنصح والإرشاد.

إذن هي مصالحة، تصالح بالمعروف كان يقاطع, الآن بدأ يجالس وعلى رأيه وكما قلنا قبل قليل: لك رأيك ولي رأي واحترم رأيك وتحترم رأي، وندعو للتعايش السلمي بين الناس، هذا الذي حصل وصار علي يجلس في مجالسهم ويصلي بصلاتهم ويشارك الموجودين بالرأي والنصيحة والمشورة وهو على رأيه و معتقدته وهم على رأيهم وعلى ما يعتقدون، إذن هي مصالحة، فلماذا لا يتعلّم أهل السياسة في هذه الأيام المصالحة من الخلفاء ومن علي سلام الله عليهم جميعًا، لماذا لا يتعلّمون منهم؟ لأنّ أبا بكر وعمر وعلي ليسوا سراقًا، ليسوا من الفاسدين وأهل الفساد، نعم، توجد أخطاء وذنوب وشبهات وتجاوزات، لكن الخط والسياق العام والمنهج العام هو يوجد صلاح وإصلاح ومرضاة الله ويوجد خوف من الله سبحانه وتعالى، ويوجد إيمان بالآخرة وبعذاب الآخرة، أمّا الآن فهذه مفقودة، فلا توجد مصالحة ولا تتحقّق مصالحة إلّا إذا تغيّرت النفوس …}}.

فالمصالحة موجودة في الإرث العربي والإسلامي وإن كانت النزعة نحو الثأر أقوى في مجتمعاتنا ولكن بإمكان القادة أن ينمّوا نزعة التسامح بين الناس ويروجوا لأفكار التصالح والوئام والتعايش إن كانوا حقاً يريدون مصلحة البلاد ويسعون إلى تمثيل المكونات التي ينتمون إليها تمثيلاً حقيقياً, ويحققوا المصالحة بينهم أولا وفق مبدأ العفو والصفح وليس المصلحة الشخصية الضيقة على حسب الآخرين وتصدر من نفوس نظيفة لا تحمل الأضغان والأحقاد والمكائد, لأن المصالحة لا تتحقق إلّا إذا تغيرت النفوس, فهل نفوس ساسة اليوم تغيرت ؟.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى