فلسطين بين خياري المفاوضات والمقاومة
تمر القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني بأخطر مراحلهم السياسية، وهي مرحلة التصفية السياسية للقضية الفلسطينية، وتفريغها من كل مضامينها الشرعية والحقوقية، وتحولها لمجرد قضية سكان، منتشرين في الداخل والخارج. ولذلك فالتفكير يتركز على ماهية هذه الحقوق، وكيفية ممارستها. والتركيز هنا على الحقوق الاقتصادية من مأكل، ومشرب، وتنقل، وعمل. ويمكن ممارسة هذه الحقوق في إطار مؤسسات سياسية محلية لا ترقى لمستوى الدولة، لأن ذلك أحد مظاهر التخلص من القضية سياسياً، أي أن تترجم في قيام دولة لها مقوماتها وأركانها الثلاثة المتعارف عليها، لأن معنى قيام الدولة من منظور «إسرائيل» بداية النهاية للمشروع الصهيوني وحلم «إسرائيل الكبرى»، والعودة لحياة «الغيتو» في إطار حدود مغلقة، وبداية لصراع جديد تخرج أوراقه من يد «إسرائيل». ولذا نجد إصراراً «إسرائيلياً» للحؤول دون قيام هذه الدولة، من خلال مسابقة الزمن في مصادرة الأراضي الفلسطينية التي يفترض أن تشكل منطقة القلب أو المحور للدولة الفلسطينية بقيام المستوطنات في قلب الضفة الغربية، والتي تشكل المساحة الأكبر لإقليم الدولة الفلسطينية، وتسود «إسرائيل» الآن موجة كبيرة من اليمينية والتشدد التي ترفض أي تعامل سياسي مع القضية الفلسطينية، وتسودها ثقافة من الكراهية والحقد على كل ما هو غير يهودي، وإصرار على الاعتراف فلسطينياً ب«إسرائيل» كدولة يهودية.
وكما هو واضح من القراءة السياسية للخطاب «الإسرائيلي» أن لا رغبة في السلام الذي يقوم على فكرة قيام الدولة الفلسطينية. في المقابل هناك تراجع واضح في الخيارات الفلسطينية، بل تضارب وتناقض بين خياري المفاوضات السلمية وهو خيار تدعمه الشرعية الدولية، وخيار المقاومة كرد على فشل المفاوضات وإصرار العدو «الإسرائيلي» على عدم تقديم أية تنازلات.
كل هذه المعطيات جعلت من الدور الفلسطيني مجرد دور لفظي، وحوّلته لمتغير تابع لغيره من المتغيرات «إسرائيلياً» وإقليمياً ودولياً. وعلى المستوى الإقليمي والدولي للصراع العربي – «الإسرائيلي»، بدلاً من أن يكون المتغير العربي هو المتغير الرئيسي في علاقاته بالمتغير الدولي، فالتراجع في تأثير العامل العربي واضح، وخصوصاً بعد أحداث ما يسمى «الربيع العربي»، وبروز تهديدات جديده للدول العربية تتمثل في الإرهاب، وانغماس الدول العربية في حرب ممتدة ضد الإرهاب والعنف، وهي الحروب التي تستنفد قدرات وإمكانات الدول العربية، وتعرض الدولة الوطنية للانحسار والضعف. وفي هذا السياق تراجعت القضية الفلسطينية كقضية أولوية عربية بسبب أولوية التهديدات الآنية، إضافة إلى الدور الأمريكي المؤيد ل «إسرائيل» والذي يشكل حائط صد ضد كل محاولات تطبيق قرارات الشرعية الدولية بما يشجع «إسرائيل» على المزيد من الصلف والعدوان والتوسع والتهويد.
هذه هي بيئة القضية الفلسطينية بكل مستوياتها تعمل لصالح «إسرائيل» مع تراجع الخيارات الفلسطينية، فلا المفاوضات حققت أهدافها ولا المقاومة أيضاً حققت أهدافها بقدر تثبيت وجود حركة حماس كفاعل فلسطيني. هذه البيئة تفرض على الفلسطينيين مراجعة وتقويم خياراتهم، وإعادة تفعيل عناصر القوة التي تشكلها القضية الفلسطينية، وهذا لا يتحقق من دون إطار سياسي جامع للقرار الفلسطيني، وفي إطار تفعيل حركة التحرر الوطني الفلسطيني ووضع برنامج وطني نضالي جامع يحدد المسار الفلسطيني وسط هذا الوضع الإقليمي والفلسطيني البائس. ومن دون هذه المراجعة، سيجد الفلسطينيون أنفسهم في سياق انصهارات إقليمية تذوب من خلالها قضيتهم، وعليهم أن يدركوا أن هذه هي اللحظة التي تسعى من خلالها «إسرائيل» مستفيدة من التحولات في موازين القوى لصالحها لفرض رؤيتها للسلام الذي يقوم على توسيع السلام الاقتصادي، والحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.