نون والقلم

عبد المنعم سعيد يكتب: تطورات عالمية مثيرة!

لم تنشب لا الحرب العالمية الأولى ولا الثانية فجأة، ولا انتهت الحرب الباردة دون موعد، ولا أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم من قبيل الصدفة، أو نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي فقط، ولا حتى كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 التي وضعت نهاية للحقبة الأميركية في الدنيا مجرد نوع من الكوابيس.
في كل هذه الأحداث الفارقة في التاريخ كانت هناك مقدمات، وشواهد، وعلامات، اختار الجميع من مراقبين وساسة تجاهلها إما لأن لهم مصلحة في الأمر الواقع، أو لأن حركة الأقدار تسير مسيرتها دون إذن من أحد. السؤال الآن هو ما شكل المفاجأة القادمة في العالم والتي تختمر عناصرها الآن؟ في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر الماضي نشرت في هذا المقام مقالا أبحث فيه عن المفاجأة القادمة في الشرق الأوسط؛ الآن فإن المهمة أكثر تعقيدا لأن البحث هو عن المفاجأة في العالم! الماركسيون يبحثون عادة عن مفتاح التغيير القادم في «تطور قوى الإنتاج»، ولا يوجد توافق بين العلماء (في التكنولوجيا أو في السياسة) أكثر من أن الدنيا على أبواب قفزة جديدة في تطبيقات «الذكاء الاصطناعي» أو AI، وإذا كان الحال كذلك فإن العالم في طريقه إلى أن يكون ثنائي القطبية مرة أخرى، ليس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كما كان في السابق، وإنما بين الولايات المتحدة والصين، فالأولى رائدة بالفعل في هذا المجال، أما الثانية فإنها وضعت موارد طائلة لكي تقود العالم في هذا الذكاء خلال عقد قادم.
علماء السياسة يبحثون عن المفاجأة القادمة في حركة التحالفات الدولية، لأن رصد حالة «القطبية» العالمية لا يكفي وحده في تحديد طبيعة النظام الدولي. وفي هذا الصدد هناك ثلاثة أحداث تحتاج لرصد نتائجها ليس فقط لأهميتها في حد ذاتها، وإنما لأنها تعكس البحث عن تحولات جديدة تخرج عما هو قائم من أوضاع. وحتى لا يكون الأمر لغزا فإن أول ما يلفت النظر الزيارة المهمة التي قام بها رئيس الوزراء الياباني شينو آبي للصين والاجتماع بقائدها شاي جينبينغ رغم التاريخ الدامي بين البلدين أثناء الحرب العالمية الثانية، والخلافات الاستراتيجية المتعلقة بالجزر المتنازع عليها بينهما، وبينما لا تزال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين مستعرة، وتتصاعد حدتها بين البلدين. في 14 أكتوبر (تشرين الأول) جرى الاجتماع الرابع عشر لمنتدى طوكيوـ بكين تحت عنوان «دور اليابان والصين في دفع السلام والتعاون والتنمية في آسيا: الأهمية المعاصرة لمعاهدة السلام والصداقة الصينية – اليابانية». ما بين لقاء القادة، واجتماع المنتدى، فإن المشهد الصيني الياباني، وتركيزه على التعامل مع القضايا الآسيوية في غياب الولايات المتحدة وربما رغما عنها لافت للنظر سوف نعود له بعد قليل.
ما يلفت النظر ثانيا أنه وبينما يجري ما سبق في شرق آسيا، فإن أوروبا شهدت اقترابا ملموسا بين ألمانيا وروسيا حينما اجتمعت كلتاهما مع تركيا وفرنسا لتسوية الأزمة السورية. لاحظ هنا أن الاجتماع جرى إقليميا دون حضور الحكومة السورية صاحبة موضوع الأزمة؛ كما جرى دون حضور إيران ذات النفوذ القوي بالسلاح والمال والمخابرات في سوريا وجيرانها العراق ولبنان؛ ولكن الأكثر أهمية من زاوية العالم كله، فهو الغياب الكامل للولايات المتحدة الأميركية عن معالجة أزمة شاركت في إدارتها ولا تزال بالدبلوماسية والسلاح، ولكن إدارة الأزمة هذه المرة، سواء من حيث معالجة ما تبقى منها في إدلب، أو لتحديد مسار مستقبلها، أصبح في يد الدول الأربع. ورغم أن ذلك يخص الشرق الأوسط، فإن الاقتراب الألماني الروسي لافت للنظر، فهو يحدث رغم الخلاف على أوكرانيا وجورجيا، وحادث الاغتيال المتهمة فيه موسكو في بريطانيا، بل وفرض العقوبات عليها من قبل حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي. وهل هي لحظة مؤقتة استلزمتها الأوضاع السورية وحالة اللاجئين السوريين للتقارب الروسي الألماني أم أنها حالة جديدة تتحول فيها الأوضاع بعيدا عن الولايات المتحدة التي على أي حال لرئيسها دونالد ترمب موقف سلبي من كل من حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي؟
كلا المشهدين في شرق آسيا وأوروبا، يرتبط بالمشهد ثالثا الخاص بالولايات المتحدة ذاتها حيث أكتب الآن، وفيها استعرت الحرب الإعلامية بين ترمب والإعلام، وفي العموم بين الجمهوريين والديمقراطيين، وكل ما احتاجته هذه الحرب الوقود الذي يغذيها من أول تعيين القاضي «كافانو» في المحكمة الدستورية العليا، إلى حادثة مقتل صحافي سعودي، إلى قيام «إرهابي» أميركي اللحم والدم بتوجيه رسائل بمفرقعات «تهدد الحياة» إلى 12 شخصية أميركية حدث أنهم ديمقراطيون، وحتى قيام «إرهابي» آخر بالدخول إلى معبد يهودي وقتل 11 شخصا وجرح ستة منهم أربعة من الشرطة في حدث هو الأول في التاريخ. كل ذلك يحدث بينما تتحرك قافلة فيها عشرات الألوف من المهاجرين اللاتينيين إلى الحدود الأميركية، ومن أجل ذلك أرسل الرئيس ترمب قواته المسلحة لمنعهم من الدخول وفي نفس الوقت قام بإلغاء معاهدة الصواريخ متوسطة المدى التي وقعها سابقه رونالد ريغان مع الاتحاد السوفياتي. ما يحدث في الداخل الأميركي لا يمكن عزله عن موقف الإدارة الأميركية من السياسة الخارجية في عمومها والذي قلت فيه أهمية تحالفات أميركا التقليدية، وتحت مظلة «أميركا أولا» باتت الدعوة جوهرها العزلة والانسحاب من قيادة العالم اللهم إلا من محاولات عقد صفقات مربحة اقتصاديا. هذه النزعة لم تعد أمرا أميركيا بقدر ما باتت أمرا عالميا، فظاهرة اليمين «القومي» تختلف عن تلك التي كانت لها نزعة دولية أو عالمية وتتميز بخشونة وأحيانا عدوانية إزاء العالم الخارجي، ولها أصداؤها بين دول كثيرة في العالم. مؤخرا فإن البرازيل انتخبت رئيسا جديدا كانت أول أعماله توجيه التحية للعلم الأميركي، وأنه في سبيله للاقتداء بالرئيس ترمب، والدخول في حلف الأطلنطي والخروج من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ونقل السفارة البرازيلية من تل أبيب إلى القدس!
الخلاصة، ربما، أن العالم تدريجيا يتحول إلى عالم ثلاثي القطبية، لا تزال الولايات المتحدة فيها قوة عظمى بحكم ما لديها من مال وسلاح وتكنولوجيا، وفوق هذا فإنها على الأرجح سوف تقود تجمعات جديدة من الدول التي يحكمها اليمين «القومي». الصين هي النجم الصاعد في سماء العلاقات الدولية، وهي تتحسس خطواتها في مجال العلاقات الدولية، فلا يوجد لديها تعجل لممارسة حقها كدولة عظمى، ولكن لا بأس لديها من أن يجذب نجمها كواكب مثل اليابان، وربما دول أعضاء في تجمع الآسيان. روسيا لا تزال القوة العظمى الثانية في مجال السلاح النووي على الأقل، ولكنها تعوض ضعفها الاقتصادي النسبي بتقدم تكنولوجي في السلاح، ومعه نشاط سياسي وعسكري يتمتع بالجرأة والشجاعة، كما حدث في جورجيا وأوكرانيا وسوريا. هي ترغب في أن تكون النجم الأوروبي الجاذب لكواكب أخرى مثل ألمانيا وفرنسا. أرجو ألا يكون ذلك استشفافا متعجلا للمستقبل؟!

نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط السعودية 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى