نون والقلم

عبد الرحمن شلقم يكتب: نتنياهو… قفزات الضفدعة نحو «الهيكل»

اليهود والقدس والصهيونية، مثلث غاص في تراب التاريخ ومياهه، ودار في أفلاكه. أنبت حقباً ذات ألوان وأنفاس وحلقات، كان الزمن فيها الوقود والآلة. لكل حقبة أسماؤها من الأشخاص. من موسى – عليه السلام – والأنبياء، والملوك، إلى هرتزل، وديفيد بن غوريون، إلى نتنياهو. القدس هي الاسم والمكان الذي يغزل خيوط الأسطورة التي امتدت آلاف السنين.

بنيامين نتنياهو، دخل التاريخ اليهودي بقوة، فهو أصغر من تولى رئاسة وزراء إسرائيل، وأقام أطول مدة على كرسي الرئاسة. قاتل في معارك عدة مع الجيش الإسرائيلي، وقُتل أخوه في عملية عنتيبي بأوغندا. كان والده من أتباع الصهيوني المتطرف جابوتنسكي، الذي ساهم فكرياً وسياسياً بالمشروع الصهيوني في فلسطين.

حزب الليكود يرتكز في عقائده على أفكار جابوتنسكي، ويستضيء بها كثير من القادة الإسرائيليين. هو أحد أركان الصهيونية، تأثر بفلسفة نيتشه والفاشية، وهو الأب الروحي لمناحيم بيغن، وهو أيضاً مبتكر فكرة «الحائط الحديدي». وقد أطلق عليه ديفيد بن غوريون لقب «تروتسكي الحركة الصهيونية»، وإلى اليوم يعيش بفكره المتطرف في عقول الإسرائيليين. وتقديراً لدوره الفكري والسياسي، تم نقل رفاته وزوجته من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، ودفن في قمة هرتزل بالقدس. لا تزال أفكاره أنفاساً سياسية تخط برامج الائتلاف الصهيوني الحاكم في إسرائيل. يقول جابوتنسكي: «لا يوجد شعب تنازل عن أرضه لشعب آخر. والحل لهذه المشكلة، هو أن يقيم المستوطنون الصهاينة حائطاً حديدياً حول أنفسهم، ويستمرون في البطش بالسكان الأصليين إلى أن يسلموا بأن لا مفر لهم من التنازل عن أرضهم». وقد عبر إرييل شارون عن ذلك بقوله: «ما لا يؤخذ بالقوة، يؤخذ بمزيد من القوة».

قانون الدولة القومية اليهودية الذي أصدره الكنيست مؤخراً، أعده بنيامين نتنياهو منذ 2014، وهو من بنات وأولاد فلاديمير جابوتنسكي، وقفزة من قفزاته نحو تنصيب ذاته على قائمة صانعي التاريخ اليهودي، ومن مكونات الأسطورة اليهودية.

إسرائيل كيان فريد في التاريخ. لم يسبق أن قامت دولة على تراب شعب آخر عبر جسر القوة الذي بني على حديد وألواح الدين والأسطورة. لقد تداخل الدين اليهودي مع القومية الإسرائيلية منذ البداية، وكانت المحطات التاريخية لهذا التداخل متعددة الألوان، بداية من الخروج من مصر تحت قيادة موسى، والسبي البابلي، ثم ظهور المسيح الذي أعاد صياغة الدين اليهودي، إلى الشتات، ثم ما حلَّ باليهود في القرن العشرين على يد النازية. تلك المسيرة الطويلة التي استمرت لقرون طويلة صنعت العقلية اليهودية التي أسست مدرسة عملية لاستخدام «الزمن» كقوة ضاربة لتحقيق الأهداف التي لم تفارق إناء الأحلام. إقامة الكيان اليهودي على أرض فلسطين لم تمت، وإن خبت في بعض حلقات سلسلة السنوات والقرون.

تراكم الأحداث البشرية الكبيرة على سطح السنين، يخلق نهر الطين المتحرك الذي يراكم تكويناً جديداً يكون التربة الواعدة لزراعة نبات ينغرس وينمو فيها. هكذا جعل اليهود من الزمن تكويناً جيولوجياً يوظفونه لأهدافهم التي ظلت تحدوهم عبر القرون.

فبعد موجات إعادة تشكيل الخرائط السياسية التي عاشها العالم إثر الحروب الكبيرة، وجد زعماء الحركة الصهيونية الثقوب التي عبروا منها نحو تحقيق حلمهم الطويل.

«الترميز»، هو المكون الأساسي لكيمياء الأسطورة. وأقصد بـ«الترميز» تحويل وقائع تاريخية، ونصوص دينية إلى شحنات يتفاعل فيها المعلوم بالغامض، من خلال صب الأسرار التي لا تخضع للتحقق العلمي أو حتى العقلي، في وعاء الصيرورة، وتوظيفها لخدمة أهداف سياسية محددة مسبقاً. استدعاء ماضٍ سحيق وتحويله إلى قوة لها فعل على أرض الواقع، سواء محلياً أو إقليمياً ودولياً.

«الهيكل» – وفقاً للرواية اليهودية – هو معبد بناه سليمان، وهو البيت المقدس، وبالعبرية: «بيت همقدس»، وهو المعبد اليهودي الأول في القدس، ودمره نبوخذنصر سنة 587 قبل الميلاد، ويقول بعض اليهود إن موقعه مكان قبة الصخرة، ومنهم من يقول إنه داخل الحرم القدسي الشريف. وقد أُعيد بناؤه أكثر من مرة بعد تعرضه للدمار. وورد ذكره في «الكتاب المقدس»، وفي عدد غير محدود من كتب التاريخ. وآخرون من المؤرخين وعلماء الآثار يشككون في وجوده أصلاً، ومن بينهم إسرائيليون. يقول عالم الآثار الإسرائيلي زيف هيرتزوغ: «إن هيكل سليمان واحد من أحلام اليقظة اليهودية، التي حولها العبرانيون من حكايات عجائز إلى أساطير دينية، لتعبر عن المجد اليهودي».

وحتى لا ينسى اليهود «الهيكل»، ويبقى حياً في ذاكرتهم، ابتدع الحاخامات طقوساً ومراسم يقوم بها كل يهودي حتى يتذكر «الهيكل» عند الميلاد وعند الموت، وعند الزواج، وعند طلاء البيت. الصوم اليهودي في شهر أغسطس (آب) تخليداً لحادثة تدمير «الهيكل». ومن أفكار هرتزل: «إن اليهود يهدفون إلى إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، حتى يتمكنوا من إعادة بناء «الهيكل»، مما يعني أنه لا بد من هدم المسجد الأقصى لإعادة بناء «الهيكل»، وأن مملكة اليهود لن تقوم إلا بذلك».

مراكز الأبحاث والعلماء في إسرائيل وأميركا، ينكبون بحثاً ودراسة ويعيدون تصميم «الهيكل»، وقد أوردت وكالة الصحافة الفرنسية سنة 1997 تقريراً يذكر أن المتطرفين اليهود أعدوا كل شيء لبناء «الهيكل»، وأن المشروع يحتاج إلى ستة ملايين قطعة حجر، يتم جمعها من صحراء النقب. وتنقل الوكالة الفرنسية تصريحاً لباراخ بن يوسف، زعيم منظمة إعادة بناء «الهيكل»، قال فيه إن جماعته انتهت من صنع شمعدان ذهبي لإقامة الشعائر الدينية في «الهيكل». وأوردت وسائل أنباء أخرى أن مليونيراً يهودياً من أصل مصري يدعى موسى فرج، أعد خيمة مصنوعة من خيوط الذهب التي ستنصب في «الهيكل»، وقد أهديت إلى بنيامين نتنياهو.

«التابوت»، وهو العمود الثاني الأضخم في بناء كيان الأسطورة اليهودية التي احتلبت دم حياتها من الدين والتاريخ، وهو حقيقة دينية عند اليهود والمسيحيين والمسلمين؛ لكن الاختلاف بين الأديان الثلاثة في فهم وتفسير وتوظيف تلك الحقيقة الدينية والتاريخية. ويسمى عند اليهود «تابوت العهد والشهادة»، وهو الصندوق الذي حفظت فيه ألواح العهد، ووضع داخل «قدس الأقداس» بـ«الهيكل»، ومطلي بالذهب، ومكانه الأكثر قداسة في «الهيكل»، وأن الملك داود جلب في عهده «التابوت» إلى القدس، ونقله ابنه سليمان بعد ذلك إلى «قدس الأقداس». وهناك روايات أخرى تقول إن «التابوت» نقل إلى إثيوبيا، وعشرات من علماء الآثار الإسرائيليين يبحثون عن «التابوت» تحت المسجد الأقصى.

بنيامين نتنياهو صهيوني توراتي، يرى في نفسه أنه من المرسلين لتحقيق كل أحلام اليهود، وأنه سيدخل سجل التاريخ عبر تنفيذ الأسطورة الكبرى، وهي إعادة بناء «الهيكل»، بعد أن حقق الاعتراف من أميركا بوحدة القدس اليهودية، وأصدر قانون يهودية الدولة، ولم يبق له إلا إعادة بناء «الهيكل»، وأن الوضع السياسي الإقليمي والدولي يصب في مجرى تحقيق أهدافه، بأسرع مما كان يظن قادة الحركة الصهيونية السابقون.

الصهيونية المسيحية في أميركا تمثل مجموعة من المسيحيين البروتستانت، الذين يؤمنون بأن قيام دولة إسرائيل كان ضرورة؛ لأنها تؤكد نبوءة «الكتاب المقدس» بعهديه القديم والجديد، وهي التي تمهد لمجيء المسيح الثاني. تشكل هذه المجموعة اللوبي الأساسي المدافع عن إسرائيل، وتجعل من دعم إسرائيل واجباً مقدساً، ومن بناء «الهيكل» فريضة دينية.

تصاعد حركة الاستيطان حول القدس، وتدفق اليهود بعدد غير مسبوق إلى المسجد الأقصى، هي قفزات الضفدعة المستمرة التي تبنتها الحركة الصهيونية عبر التاريخ، من أجل إقامة الدولة العبرية. بنيامين نتنياهو يعتقد أنه المكلف من «يهوه» لتحقيق القفزة الأخيرة للضفدعة اليهودية (إعادة بناء «الهيكل»).

وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى