نون والقلم

عبدالله ناصر العتيبي يكتب: أيها السودانيون… اسجنوا “المرحلة” لا الأشخاص

ربما شاهد الكثير من القرّاء فيديو انتشر بشكل واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، يظهر فيه مواطن سوداني في الولايات المتحدة يطلب من سفير بلاده تسليمه السفارة، بحجة أن حكومة البشير سقطت، وأن من يحكم الآن هو الشعب!

نتيجة نشوة الانتصار التي عاشها الناس في الشارع، ظنّ هذا المواطن أن له الحق في أن يكون في موقع “المسؤولية التنفيذية” متى شاء وأينما كان، وأن على الجميع في الداخل والخارج أن يحترموا هذا التحول الجديد في سلوك المواطن – الـ “سوبر”، كون المواطن، بهتافاته واعتصاماته – وهذا صحيح على أي حال – قام وحده وبإزاحة عمر البشير من الحكم بعد ٣٠ عاماً من السلطوية والفساد والأوضاع الاقتصادية المتردية.

يظنّ هذا المواطن المصاب بنشوة الانتصار، أنه رئيس المرحلة. وكذلك يفعل كل السودانيين في الوقت الحالي.

كل الذين شاركوا فعلياً في التظاهرات والاعتصامات، وحتى أولئك الذين لم يشاركوا واكتفوا بالاحتجاج الصامت في غرف المعيشة في بيوتهم، سواء أكانوا في السودان أم في الخليج في أم أوروبا وأميركا، كل هؤلاء يريدون أن يكونوا جزءاً من فريق التخطيط والتنفيذ الذي أوكلت إليه مهمة تغيير أحوال المواطن! لكن، إذا كان الجميع رؤساء، فأين المواطن؟! وإذا كان الجميع “حكومة تنفيذية” فأين الشعب؟

ليس للثورة السودانية أبناء متنفذين لتأكلهم في نهاية المطاف بعد عشر أو عشرين سنة، ثم تستقر الأوضاع للمنتصر الأخير. ذلك أن الشعب السوداني بأطيافه كافة، عرّاب هذه الثورة. العامل والفلاح والمدرس والمهني والأديب والمثقف والمؤمن وغير المؤمن والرجل والمرأة، كل هؤلاء كانوا أسياداً لاحتجاج صغير، كبر واشتد عوده طوال سنوات، ليسقط البشير ونظامه في نهاية الأمر. لا أبناء تأكلهم الثورة كما جرت العادة، بل آباء انصهروا في أتون المعركة، صانعين “عقلاً جماعياً سلطوياً” بديلاً لديكتاتورية النظام السابق، ومانعين كل محاولات النخبة لصناعة خريطة طريق تخرج السودان من الأوضاع المتردية التي يعيش، ومتمسكين بمفاهيم “الثورة الممتدة” من خلال تعظيم “سلوك الجماهير” وتقديسه، واعتباره تأكيداً للوطنية ودليلاً على سقوط القبضة الأمنية للنظام السابق.

خطورة الثورات الناجحة التي تقوم بها جماعات أو فئات محددة ضد نظام حكم معين، كما في حالات أخرى غير الحالة السودانية، تكمن في تحويل الوطن بعد الانتصار الأوّلي إلى ساحة معركة لتقاسم السلطات والنفوذ وتصفية الحسابات، والخاسر الوحيد دائماً هو المواطن.

وخطورة الثورات الناجحة التي تقوم بها الجماهير على اختلاف مرجعياتها وثقافاتها وأجنداتها لإسقاط “ديكتاتورية ما” كما هو الحال في السودان، تكمن في رفض كل الحلول النخبوية، وإخضاع الوضع بالكامل إلى سلطوية “العقل الجمعي” الذي يضرب فقط بعصا الجماهير من غير أن تكون له القدرة على إنتاج أي حلول، والخاسر الوحيد دائماً هو المواطن.

لم يستمر نجاح الثورات من النوع الأول والنوع الثاني عبر التاريخ إلا بثورة فكرية سريعة على الثورة الأم، تُلغي امتداداتها وتحتفظ فقط بأهدافها الأولية.

السودان اليوم في حاجة إلى ثورة لاحقة، تأخذ رجل الشارع البسيط من قصر الحكم وتعيده إلى منزله معززاً مكرماً، وموعوداً بتحقيق مطالبه في فترة زمنية معقولة. وإلا، فإن الحق، كل الحق معه، في العودة مرة أخرى إلى الشارع، ومن ثم إلى قصر الحكم الجديد.

السودانيون اليوم في حاجة (بتقديري) إلى أن يأخذوا نفساً شعبياً عميقاً، وأن يفكروا في مستقبل بلدهم، وعليهم أن يضعوا في اعتبارهم أربع نقاط مهمة:

أولاً: عليهم أن يدركوا أنهم لم يعيشوا التجربة الديموقراطية طوال تاريخهم. وبالتالي، لا حاجة للحديث عن ضرورة تطبيق “النموذج الأمثل” من الديموقراطية الغربية بتفاصيله كاملة، إنما تتمثّل الحاجة في الوقت الراهن في الحصول على الحد الأدنى من متطلبات “الحكم الرشيد”.

أسمع وأقرأ الكثير من المعلقين السودانيين هذه الأيام يتحدثون عن الحاجة إلى تطبيق الديموقراطية ومتطلباتها بتفاصيلها كافة. وكأنهم، من فرط ديموقراطيتهم، فقدوها فقط بعد انقلاب البشير واستعادوها (مكتملة كما يخبرونها) بعد إسقاطه!

لم تكن الديموقراطية يوماً من أدبيات الشعب السوداني، ولا من محددات وجوده. وإذا ما أراد السودانيون التمتع بمزاياها، فعليهم أولاً استزراع أدواتها وتربية مفاهيمها في البيئة السودانية المحلية لسنوات عدة، ثم الانتقال التدريجي بعد ذلك إلى فضاءاتها واحداً واحداً. ما لا يعلمه الكثيرون، أن الديموقراطية من واجبات المحكوم مثلما هي من واجبات الحاكم! وأن على الشعب أولاً أن يعمل على ديموقراطيته لتثمر نخبة حاكمة ديموقراطية.

ثانياً: على السودانيين أن يعيشوا هذه الأيام مرحلة الإجمال لا مرحلة التفاصيل. عليهم أن يضعوا عناوين رئيسية، من غير أن يدخلوا في شروحات تستهلك الجهود وتوّلد الخصومات.

البلاد اليوم تحتاج إلى عدد أقل من القادة والأنظمة والمشاريع والخطط والبيانات والآراء. على السودانيين أن يعرفوا أنهم كلما أجملوا في هذه المرحلة، اقتربوا من بعضهم. وكلما دخلوا في التفاصيل، مدّ الشيطان رجله بين أيديهم.

ثالثاً: على السودانيين أن يتوقفوا في الحال عن ملاحقة المسؤولين السابقين وسجنهم! عليهم بدلاً من ذلك أن يسجنوا “المرحلة السابقة” بتفاصيلها وفسادها ومحسوبيتها وعاداتها وثقافتها.

المجرمون ليسوا هم الأشخاص الذين كانوا نتاج بيئتهم لا أقل ولا أكثر. المجرم الحقيقي هو المرحلة التي تشكلت طوال عقود بعلمكم ومعرفتكم!

إن سباق اعتقال الأشخاص – الذي تمارسونه هذه الأيام – سينتهي إذا ما بدأتموه في منطقة لا ترغبونها، سيبدأ بالرئيس ثم ينطلق ليمر بالوزراء ونواب الوزراء ووكلاء الوزارات ومدراء العموم ورؤساء الأقسام والموظفين، ثم ينتهي بكم واحداً واحداً، انتبهوا من اعتقال بعضكم البعض تحت مظلة “مرحلة فاسدة”.

رابعاً: لماذا تتحدثون عن تغيير الدستور بوجل وخوف وكأن هذا الدستور شيء مقدس؟ الدستور الموجود الآن هو أحد مخلفات المراحل الفاسدة السابقة، فلا بأس من تفكيكه وتعديله، وإن لم ترغبوا بذلك، انسفوه بالكامل واكتبوا بدلاً منه دستورا جديدا يتناسب مع المرحلة الانتقالية.

خامساً: إن السودان في حاجة إلى مرحلة انتقالية تؤخذ فيها السلطة من “العقل الجمعي” للجماهير وتُسلم إلى حكومة منتخبة جماهيرياً، وهذا أمر لا يتم بين ليلة وضحاها.

على السودانيين أن يتذكروا أن سنة كاملة لم تكن كافية لنقل السلطة من حكومة جعفر نميري إلى حكومة الصادق المهدي في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي!

عليهم أن يطمئنوا إلى المجلس الانتقالي الحالي، وأن يعطوه الوقت الكافي لتأهيل الأحزاب واستزراع الديموقراطية وتفويت الفرصة على من يريد أن يدخل في التفاصيل وإعادة ترميم الأجزاء الحيوية من كيانات الدولة.

عليهم أن يفعلوا ذلك، وإلا ليتهيأوا لصادق جديد وترابي أكثر طزاجة.

نقلا عن صحيفة الحياة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى