طارق تهامي يكتب: عندما غضب مني فؤاد سراج الدين
في مطلع الثمانينيات، كنا شبابًا ينتمي لحزب الوفد، وكنا جيلًا يكفيه أنه لحق بفؤاد سراج الدين، وعمل معه، وتعلم منه، كنا نرى ذلك القدر وتلك المصادفة التاريخية، أكبر إنجاز يمكن أن يحققه سياسي شاب، في بداية طريق العمل العام، وهو أن يكون بجوار سياسي وزعيم كبير لأكبر وأعرق حزب في تاريخ مصر.
من الدروس التي لا أنساها، منذ حوالي ثلاثين عامًا، وخلال لقاء شباب الوفد، مع رئيس الحزب وزعيمه فؤاد باشا سراج الدين، كنا نطرح عليه الأسئلة التي تدور في اذهاننا، وكان يرد عليها بحنكة وصراحة وابتسامة، إلى أن جاء دوري في الحديث، فطرحت سؤالًا، وتلقيت الإجابة، وبعدها طلبت من فؤاد باشا، إلقاء قصيدة شعر بالعامية، ليست من تأليفي ولكنها من نظم الشاعر محسن الخياط، وهو أحد الذين تعرضوا للاعتقال فترة الستينيات، وكان صحفيًا بجريدة الجمهورية على ما أتذكر، وسمح لي رئيس الوفد وزعيمه بإلقاء القصيدة، فقلت:
مستقتلين ولا عمرنا نرمى السلاح من يدنا!
وهنا نظر فؤاد سراج الدين إلى محمود أباظة رئيس لجنة شباب الوفد في ذلك الوقت، والذي كان يجلس على يساره، وكان إلى يمينه الدكتور نعمان جمعة نائب رئيس الوفد وقتها، وشعرت أن هناك أزمة، ولكنه لم يقاطعني، فاستكملت إلقاء قصيدة محسن الخياط قائلًا:
مستقتلين.. ولا عمرنا نرمى السلاح من يدنا
مستموتين.. نضحك لأيام الجراح الل ارتوت من دمنا
وإحنا كده.. من صنع أهوال النضال عد السنين من عمرنا..
وإحنا كده.. من صنع أوجاع الجياع المحرومين من شعبنا
نبدر حياتنا ع الطريق.. ترويها أيام الضنا.. تطرح هَنا..
لا جلادين.. ولا سفاحين..حيغيروا طعم الكفاح من بقنا..
وتكهرب الجو، قليلًا، وضاعت الابتسامة من وجه فؤاد سراج الدين، وقال لي: سلاح إيه يا ابنى؟! إحنا مش بتوع سلاح!!
وكان الدرس الذىي لا يمكن أن تنساه طيلة حياتك، وهو أننا لا ندعو عند الخلاف إلى حمل السلاح، ولكننا سياسيون سلاحنا هو الكلمة، وهذا هو الوفد الذى لم يحمل أبناؤه السلاح إلا في مواجهة المحتل، ولحماية الاستقلال الوطني.
فؤاد سراج الدين أعطانا هذا الدرس، رغم أنه تعرض للسجن والتنكيل والاضطهاد والظلم، كما لم يتعرض أحد، ورغم ذلك لم يدعُ لحمل السلاح لحل الخلاف السياسي، مستندًا إلى تراث الوفد الذي جعل النحاس يمنع الوفديين من ممارسة العنف، ودعاهم إلى الهدوء وضبط النفس والتفاوض، عقب يوليو 1952، لأن اقتتال ابناء الوطن الواحد يضر البلاد ولا يحقق نفعًا.
الكاتب الصحفي عادل حمودة، يحكى قصة مهمة أكد خلالها أن فؤاد سراج الدين قال كلامًا واضحًا عن السلمية.. قال حمودة: «فؤاد سراج الدين باشا تزعم حزب الوفد لإعادته للحياة السياسية وقت أن فتح الرئيس محمد أنور السادات الباب لعودة الأحزاب ظنًا منه أن حزب الوفد أصبح عجوزا بأعضائه، ولكن عندما تزعمه فؤاد سراج الدين ونظرا لشعبيته الكبيرة بين المصريين انضم للحزب عدد كبير من المواطنين، ما أخاف السادات من سيطرة حزب الوفد على الأغلبية في البرلمان، وقرر الرئيس السادات خلال إجراء معاهدة السلام مع إسرائيل اعتقال كثير من رموز السياسية المعارضين لتلك المعاهدة خوفًا من أن تماطل إسرائيل في سحب قواتها من سيناء، وكان من بين المعتقلين فؤاد سراج الدين باشا، مشيرًا إلى أنه عندما اغتيل السادات خلال الاحتفال بنصر أكتوبر بكى عليه فؤاد سراج الدين عندما علم بخبر اغتياله، فسأله عدد من زملائه أتبكى على من أدخلك السجن، فرد عليهم فؤاد باشا قائلا: «الشرفاء يقاتلون بالكلمة لا بالرصاص».
عندما قرأت هذه الكلمات عرفت سر غضب فؤاد سراج الدين من إلقائي قصيدة تدعو لحمل السلاح، من تأليف شاعر صاحب فكر مختلف عنا، رغم أنني لم أكن أقصد معناها الحرفي، ولكنني كنت أدعو للنضال السياسي، ولكن خانني اختيار القصيدة المناسبة، بسبب قلة خبرة سياسية، بحكم السن في ذلك الوقت، ورغم أنها كانت مجرد قصيدة، وكلمات قد تمر، إلا أنه لم يترك فرصة إعطاء الدرس لنا جميعًا تتجاوز اللحظة حتى لا ننسى أننا سياسيون ولا نقاتل بالسلاح ولكن بالمواقف وبالكلمة.
رحم الله فؤاد سراج الدين، وكل المجد لزعماء الوفد، وقياداته، الذين تعلمنا على أيديهم مبادئ لن تمحى من ذاكرتنا مهما طال الزمن.
tarektohamy@alwafd.org
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية