لم تكن رؤية البلاد العربية للولايات المتحدة الأميركية في مطلع القرن العشرين كما هي عليه الآن في هذا القرن الجديد. بل على العكس، كانت أميركا بنظر العرب آنذاك هي الدولة الداعمة لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وهو الأمر الذي أكّدت عليه «مبادئ ويلسون»، وهي 14 مبدأ قُدِّمت من قِبَل رئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون للكونغرس الأمريكي بتاريخ 8 يناير 1918بعد الحرب العالمية الأولى. واستمرّت النظرة العربية الإيجابية لأميركا طيلة النصف الأول من القرن الماضي، خاصّةً أن أميركا لم تستعمر أو تحتل، قبل حربها الأخيرة على العراق، أيَّ بلدٍ عربي (كما كان حال عدّة دول أوروبية)، ووقفت واشنطن في العام 1956، خلال فترة رئاسة الجنرال أيزنهاور، ضدّ العدوان البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي على مصر.
أمورٌ كثيرة تغيّرت في نظرة الشعوب العربية للسياسة الأميركية خلال حقبة العقود الستّة الماضية، وتحديداً منذ اغتيال الرئيس كنيدي في العام 1963 وتولّي جونسون مهام الرئاسة الأميركية، حيث أصبح الدعم الأميركي المفتوح لإسرائيل هو الغالب على السياسة الأميركية في كلّ العهود التي توالت بعد ذلك، وحيث تفوّق عدائياً عهد جورج بوش الابن على كل ما سبقه، حينما احتلّت أميركا العراق ومارست سياسة عدائية للعرب عموماً، ودعمت حروب شارون في المنطقة.
وهاهو الرئيس الأميركي الحالي ترامب يتجاوز أيضاً إدارة بوش الابن من حيث التبنّي الكامل لسياسة وأجندة الحكومة الإسرائيلية التي يقودها نتنياهو منذ العام 2009. فترامب اتّخذ سلسلة قرارات تتناقض مع مرجعيات الأمم المتّحدة ومجلس الأمن الدولي، ومع ما كانت عليه السياسة الأميركية منذ حرب العام 1967 لجهة مدينة القدس وهضبة الجولان، كما أوقف ترامب كلّ أشكال الدعم للشعب الفلسطيني وللمؤسّسات الدولية التي ترعى شؤون اللاجئين الفلسطينيين، إضافةً طبعاً إلى تنفيذ مطلب نتنياهو بانسحاب أميركا من الاتفاقية الدولية مع إيران وتصعيد العقوبات الأميركية ضدّها.
هذا التحوّل الحاصل في السياسة الأميركية لم يحظَ بتأييد حلفاء واشنطن في العالم فكيف بخصومها!، وجعل ترامب من «المغضوب عليهم» عالمياً، لكن هل العرب تحديداً هم على «صراط مستقيم»؟!. الإجابة هي طبعاً بالنفي، فالعرب اليوم هم في أسوأ حال من الانقسامات والصراعات البينية، ومن افتقاد البوصلة السليمة لرشد حركتهم. وهو حالٌ يجعل من الأوطان العربية أرضاً خصبة لكل مشاريع التقسيم والتدويل التي تراهن عليها إسرائيل وأطراف أجنبية عدّة. العرب اليوم هم في ضلالٍ مبين مسؤولٌ عنه هذا الكمّ المتخلّف من الخلافات المهيمنة على المنطقة. وكما جرى استغلال التخلّف العربي في مطلع القرن العشرين لتحقيق السيطرة الأوروبية على بلاد العرب من خلال شرذمة أمّتهم وأرضهم، يتمّ الآن بناء متغيّرات دولية وإقليمية من خلال توظيف الانقسامات الحاصلة لدى الشعوب العربية والإسلامية. والملامة هنا على العرب أنفسهم قبل أيِّ طرفٍ أجنبيٍّ آخر.
نعم العرب سياسياً وفكرياً في ضلال، إذ هل هو صراطٌ مستقيم ما يسير عليه المسلمون والعرب حينما تتحوّل التعدّدية الطائفية والإثنية في أوطانهم إلى خلافات، وإلى صراعاتٍ دموية أحياناً؟!.
أو هل هو صراطٌ سياسي مستقيم حينما يتعامل البعض مع إسرائيل أو يحافظ على المعاهدات معها بينما هي تمارس سياساتها التوسّعية ومشاريعها بالمنطقة، وحيث يواصل المستوطنون الإسرائيليون تهويد مدينة القدس وغيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلّة؟!.
وما الذي تريد إدارة ترامب تحقيقه بالملفّ الفلسطيني، وهل المنطقة فعلاً هي عشيّة الإعلان عن «الصفقة الكبرى» التي تكرّر الحديث عنها منذ وصول ترامب لحكم «البيت الأبيض»؟!. ثمّ أي «صفقة» ستكون لها شرعية فلسطينية وعربية ودولية إذا كانت واشنطن حتّى الآن قد خالفت قرارات الأمم المتحدة و«مجلس الأمن» بشأن القدس وهضبة الجولان، وهي لا تمانع عملياً في استمرار الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وهي التي تعاقب «السلطة الفلسطينية» والشعب الفلسطيني بأسره من خلال وقف الالتزامات الأميركية المالية تجاه «السلطة» والمؤسّسات الدولية التي ترعى شؤون اللاجئين الفلسطينيين؟!.
وهل يوجد موقف أميركي واضح أصلاً من مسألة «الدولة الفلسطينية»، أو من حدود هذه الدولة المنشودة أو عاصمتها أو طبيعة سكّانها (أو مصير المستوطنات) أو مدى استقلاليتها وسيادتها؟!. وأين هو الموقف الأميركي من الحدّ الأدنى من المطالب العربية والفلسطينية التي تضمّنتها المبادرة العربية التي أقرّتها القمّة العربية في بيروت في العام 2002، حيث كان واضحاً في المبادرة ضرورة قيام «دولة فلسطينية» على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، وبأن تكون القدس عاصمتها، وبحلٍّ عادل لقضية اللاجئين، وبانسحاب إسرائيل من كلّ الأراضي العربية التي جرى احتلالها في حرب 1967، بما فيها الجولان السوري المحتل؟!.
حكومة نتنياهو لم تجد مصلحةً طيلة السنوات العشر الماضية في أيِّ حلٍّ سياسي مع الفلسطينيين، ولا أقطاب حكومات نتنياهو من الموقّعين أصلاً على الاتفاقيات التي تمّت مع «منظمّة التحرير» في العام 1993، ويعتبر نتنياهو (وما يمثّله عقائدياً وسياسياً في إسرائيل) أنَّ الظروف الآن مناسبة جداً لفرض أجندة إسرائيلية على المنطقة، يكون الهدف الأساسي فيها هو التشجيع على تطبيع الدول العربية والإسلامية لعلاقاتها مع إسرائيل وعلى إشعال الصراعات الطائفية والإثنية في دول المنطقة، وعلى تكثيف الاستيطان وإخضاع الفلسطينيين لمشيئة المحتلّ الإسرائيلي، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى إدارة مدنية ترعى شؤون الخدمات وتشكّل امتداداً أمنياً لإسرائيل وسط المناطق الفلسطينية، مع توطين الفلسطينيين خارج الأراضي المحتلّة.
الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة استفادت وتستفيد من الظروف الدولية والعربية والفلسطينية على مدار عقودٍ من الزمن إلى أقصى الحدود الممكنة، وهي تفرض شروطها ومطالبها على العالم ككل، فلِمَ انقلبت الأمور عربياً بعد حرب العام 1973 التي يُفترض أنّها كانت نصراً للعرب، عمّا كانت عليه بعد حرب 1967 التي يُفترض أنّها كانت هزيمة للعرب؟!. فمِن شعاراتٍ حافظ عليها العرب بعد حرب 67 : لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل قبل انسحابها من الأراضي المحتلّة عام 1967، إلى التسابق على الاعتراف والتفاوض والصلح مع إسرائيل، كما حدث بعد اتفاقيات كامب دافيد ثمّ بعد مؤتمر مدريد واتفاقيات «أوسلو»؟!.
أليس واقع خدمة المصالح الإسرائيلية هو السائد الآن في عموم أزمات المنطقة وحروبها الأهلية الداخلية؟! أليس أساس المشكلة على الصعيد الفلسطيني هو إخراج الصراع العربي/الإسرائيلي من دائرته العربية الشاملة وجعله الآن قضية «مسار فلسطيني/إسرائيلي» متعثّر ويحتاج إلى «تنشيط»؟!. ثمّ متى كانت القدس قضيّةً خاصّةً فقط بالمفاوض الفلسطيني بينما هي مدينة مقدّسة معنيٌّ بها وبمستقبلها، في ظلّ محاولات تهويدها لأكثر من خمسين عاماً، عموم المسلمين والمسيحيين في العالم؟!. وأين هو «الوطن الفلسطيني» بعد 25 عاماً من اتفاق أوسلو ومن المراهنة على المفاوضات برعاية أميركية!؟ أين هو في الحدّ الأدنى من تمثيل كل الشعب الفلسطيني الموزَّع الآن بين «ضفّة وقطاع»، وبين «فلسطينيّي الداخل والخارج»، وبين «لاجئين ومهاجرين في الشتات»، وبين ضحايا «النكبة» ومهجّري «النكسة»؟!.
أمّا «الوطن الفلسطيني»، بالمفهوم الإسرائيلي الذي يدعمه الآن فريق إدارة ترامب، فممرّه من خلال القبول بـ«الاستيطان» و«التوطين» معاً. أي وطن فلسطيني ممزّق أرضاً وشعباً تنخر جسمه المستوطنات، وتوطين للفلسطينيين في الدول المقيمين بها الآن وإلغاء حقّ عودة اللاجئين.
ولعلّ رؤية ما حدث في السنوات الأخيرة، وما زال يحدث، من إشعال لحروبٍ ومناخات انقسامية داخلية في العديد من البلدان العربية، لَتأكيدٌ بأنّ ما يتحقّق على الأرض العربية هو خدمة المشاريع الإسرائيلية الهادفة إلى تفتيت المنطقة العربية وأوطانها إلى دويلات طائفية ومذهبية متصارعة، تكون فيها «الدولة اليهودية» هي الأقوى وهي المهيمنة على باقي الدويلات. فالهدف هو تكريس إسرائيل «وطناً لليهود» بشكلٍ موازٍ مع تدمير وانهيار «الأوطان» الأخرى في المنطقة.
إنّ «مصالح إسرائيل» ليست سائدة بالمنطقة العربية فقط، بل الأمر هو كذلك في الغرب عموماً وأميركا خصوصاً. فكثيرٌ من سياسات واشنطن وحروبها الأخيرة كانت مرجعيتها «المصالح الإسرائيلية» لا «المصالح الأميركية»، وحينما تحاول أي إدارة أميركية تحقيق مصالح «أميركا أولاً»، كما حاولت إدارة أوباما في الملفّ الفلسطيني، تضغط القوى الصهيونية داخل أميركا فيتمّ «تصحيح» الأولويات والقرارات لكي تتوافق مع الرؤى الإسرائيلية!.
لقد كان المشروع الأميركي للمنطقة خلال حقبة بوش و«المحافظين الجدد» يقوم على فرض حروب و«فوضى خلاّقة» و«شرق أوسطي جديد»، وعلى الدعوة لديمقراطيات «فيدرالية» تُقسّم الوطن الواحد ثمّ تعيد تركيبته على شكلٍ «فيدرالي» يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن، ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقراراته. ولا يخرج الحاكم الأميركي الآن، دونالد ترامب، عن هذه الرؤية للمصالح الأميركية، فما زال هدف «التغيير الجغرافي» في خرائط البلدان العربية أشدّ حضوراً من أمل «التغيير السياسي» الذي طمحت له بعض الشعوب العربية.
مدير مركز الحوار العربي في واشنطن
Sobhi@alhewar.com