نون والقلم

سليم نصار يكتب: فرنسا تطالب برئيس عسكري ينقذها من «السترات الصفر»

يطلق الفرنسيون على انتفاضتهم الأخيرة إسم «الثورة الصفراء»، وذلك بغرض تمييزها عن ثورة تموز (يوليو) الحمراء التي صبغت شوارع باريس بالدم سنة 1789.

وهكذا أصبحت «السترات الصفر» اللماعة عنوان الاحتجاج لآلاف المتظاهرين الذين يطالبون بإسقاط الرئيس ايمانويل ماكرون وحكومته. كل هذا لأن التنازلات التي قدمها رئيس الحكومة ادوار فيليب بشأن أسعار الوقود والضريبة على الكربون لم تقنع غالبية المتظاهرين بالخروج من الشوارع.

والملفت أن انتفاضة «السترات الصفر» لم تنتظر حتى ظهور قيادة موجهة كما حدث سنة 1968، وإنما لجأت الى مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التحرك قرب مراكز السلطة في الشانزيليزيه وقوس النصر والكونكورد.

ولقد استضافت وسائل الإعلام الفرنسية بطل انتفاضة 1968 داني كوهين بانديت الذي أوصى المضربين بوجوب استئناف النضال وعدم الخضوع لإغراءات الحكومة. وحذر من السقوط في خطأ تجميد اندفاع الجماهير ولو لأسبوع واحد، مؤكداً أن الإصرار كان أفضل عامل لاستقالة رمز المقاومة الفرنسية الرئيس شارل ديغول!

وزارة الداخلية الفرنسية أعلنت في بداية الانتفاضة عن اشتراك 13 ألف شخص توزعوا على الطرقات الرئيسية لإحراق سيارات ونصب حواجز وإغلاق شوارع. والملفت أن التظاهر لم يقتصر على باريس فقط، وإنما تعداها ليصل الى مدن أخرى مثل بوردو وتولوز ومرسيليا. وبما أن الدولة لم تكن مستعدة لمقاومة حرب الشوارع، لذلك أوقفت ألفي متظاهر، الأمر الذي أثار انتقادات كبار المحامين ومعلقي الصحف. ولوحظ أن حملة الانتقادات تركزت على مهاجمة قرارات رئيس الحكومة ادوار فيليب الذي وعد الوزراء بإنهاء اعتصامات المشاغبين في أقصر مدة ممكنة.

لكن وعوده لم تثمر بالرغم من التنازلات التي قدمها بغرض تنفيس احتقان الشارع الفرنسي. لذلك دعا الى الحوار مع المعارضة بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية وصيانة المكاسب التي حققها عهد الرئيس ماكرون خلال سنة ونصف سنة تقريباً. والحوار كما يتصوره ادوار فيليب يشمل مختلف المكونات الحزبية – يسارية كانت أم يمينية – على أمل إعادة التماسك في جهاز الحكم.

أول انتقاد وجهه المتظاهرون الى ماكرون هو انشغاله في تحسين علاقات فرنسا مع الدول الخارجية، بدلاً من الاهتمام بالداخل والتجاوب مع المطالب الشعبية. وكما فعل الرئيسان من قبله فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي، هكذا باشر ماكرون جولاته الخارجية بزيارة المستشارة الألمانية انجيلا ميركل. وقد انتقدته منافسته مارين لوبن واصفة إياه بالزاحف على ركبتيه أمام المستشارة لأنه وصل الى الرئاسة بدعم من البورصات وأسواق المال.

كتب المعلقون في حينه يمدحون خطوة الرئيس الجديد لأنها، في نظرهم، تعبّد الطريق الى قيام اوروبا الموحدة، على أن تصبح المانيا وفرنسا المحورين الأساسيين لتشكيل «الاتحاد الاوروبي.»

وقد انتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كل هذه النشاطات السياسية التي دشنها ماكرون مع ميركل، لأنها تعيد إحياء الحلف الأطلسي الذي يمثل العدو الأقرب الى المجال الحيوي لنفوذ موسكو خصوصاً أنه يحاصر روسيا ويمنع تمددها باتجاه دول اوروبا الشرقية سابقاً.

في ضوء ذلك الموقف السلبي الذي أظهرته موسكو في ربيع 2017، توقع وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان أن تكون الأجهزة السياسية الروسية قد لعبت دوراً أساسياً في تحريك جماعات «السترات الصفر.» وهذا ما أكده وزير الداخلية الفرنسي الذي لمس من تحقيقاته مع المتظاهرين ميلاً روسياً الى السيطرة على مسار الحراك الذي انزلق نحو العنف. وهذا في رأيه يفسر سعي الرئيس بوتين الى ممارسة ضغوط تؤدي الى إضعاف الاتحاد الاوروبي وانشغال الدول الاوروبية بهمومها الداخلية.

ولأسباب مختلفة غرّد الرئيس الاميركي دونالد ترامب على لحن اعتبره المسؤولون الفرنسيون خروجاً على وحدة الصف، وكل ما يمثله الحلف الأطلسي من تضامن وانسجام. ذلك أنه وجد في الأزمة الفرنسية مناسبة لتبرير قراره بسحب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ. ورأت السلطات الفرنسية أن الأمر يُعد تدخلاً في شؤون لا تخص واشنطن، ولا يعبر عن تضامن بين دول حليفة تتقاسم قيماً واحدة. ولم يكتفِ وزير خارجية فرنسا بهذا القدر من الانتقاد الحاد لتصرفات ترامب، بل أعقبه بتصريح قال فيه إن بلاده لا تتدخل في شؤون اميركا الداخلية، وانها تتوقع من ترامب المعاملة بالمثل.

ورأى المراقبون أن أجندات الرئيسين الروسي والاميركي تتقاطع في كره الاتحاد الاوروبي، والعمل على إضعافه وتهديد وحدته. لذلك التقيا، على رغم خلافاتهما العميقة، على زعزعة وحدة اوروبا عبر حلقتها الضعيفة، أي فرنسا.

حصيلة أحداث الأسبوع الأول من انتفاضة أصحاب «السترات الصفر» كانت محور المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الاقتصاد. وفيه اعترف بأن الحركة التجارية الفرنسية تراجعت بنسبة تزيد على أربعين في المئة، وأن الخسائر زادت على بليون يورو.

وبما أن باريس وسائر المدن الفرنسية تنتظر موسم أعياد نهاية السنة لكي تجني أرباحاً إضافية تعوضها خسائر الركود والتراجع في المبيعات، لذلك ألغيت آلاف الحجوزات في فنادق الدرجة الأولى والثانية. وهكذا أصبحت المواقع السياحية في عاصمة النور مرتعاً خصباً للمشاغبين الذين احتلوا الشانزيليزيه ومستديرة قوس النصر.

عندما وصل ايمانويل ماكرون الى كرسي الحكم في الاليزيه، وعد المواطنين بإنشاء وطن أفضل يرضي طموحاتهم. وظهر ذلك الوعد في أول كتاب له أصدره قبل الحملة الانتخابية وعنوانه «الثورة.» وكان في حينه في التاسعة والثلاثين من عمره. وقال في كتابه إن التغيير الذي يعده لبلاده لم يعرفه الفرنسيون منذ عصر النهضة.

في ضوء هذه الوعود البراقة كتب المعلق المعروف تشارلز بريمر يقول: «إن الشاب الذي فاز بمنصب رئيس الجمهورية وضع للرئاسة شعاراً جديداً خلاصته أن «الجمهورية ستنطلق.» وكان هذا الشعار مستوحى من ثورة 1789 التي هدمت سجن الباستيل، وحرصت على تطبيق مبادئها الداعية الى ممارسة الحريات والمساواة والأخوّة. وفي ظل هذه الشعارات الجذابة طرح ماكرون نفسه كقائد ثابت لا يلين أمام الصعاب. ومن المؤكد أنه نجح خلال سنته الأولى في تطبيق هذا التعهد. وبما أنه لا يملك قاعدة حزبية شعبية، فقد اعتمد على خدمات 36 ألف مجلس بلدي، الأمر الذي نشر سلطته في كل المحافظات. ومع هذا كله، فقد بقيت باريس بعيدة جداً عن الأرياف التي وصفها الرئيس بـ «فرنسا المنسية.» لهذا السبب أطلقت عليه الصحف لقب «رئيس الأغنياء.» ولهذا السبب أيضاً أصرت الانتفاضة على ضم آلاف الطلاب الى صفوفها كمظهر اعتراض على غلاء الأقساط. كما أصرت أيضاً على تقليد أسلوب انتفاضة 1968 التي أسقطت الجنرال ديغول.

بقي السؤال المتعلق بمستقبل ايمانويل ماكرون، وهل الانتفاضة الحالية ستدفعه الى الاستقالة كما فعل من قبله الرئيس شارل ديغول؟ خصوصاً أن الاحتجاجات المتواصلة التي تعبر عنها جماعة «السترات الصفر» قد شجعت الغالبية المحايدة على تجيير الرئاسة الى جنرال لعل الحكم العسكري الصارم يجبر الشبان على مغادرة الشوارع قبل أن يستأنف المضربون أعمال الشغب والعنف والترويع.

لكن الذين يعرفون ماكرون جيداً يستبعدون تخليه عن منصبه بسهولة، خصوصاً أنه مؤمن بأن انتفاضة جماعة «السترات الصفر» لا تمت الى شعاراتها السياسية بصلة، ولا الى طروحاتها الاجتماعية، وإنما هي بحسب قناعته «مجموعة مأجورة» تعمل لتصديع وحدة اوروبا، وتفكيك القارة العجوز.

ومثل هذا التوصيف ينطبق على غالبية دول الاتحاد الاوروبي، خصوصاً بلجيكا التي شهدت هذا الأسبوع انسحاب الحزب الفلمنكي من الإئتلاف الحاكم، أي من تحالف الأحزاب الأربعة التي يتشكل منها الإئتلاف.

وذكرت تقارير محلية أن سبب الانسحاب يتعلق بالاحتجاج على ميثاق الأمم المتحدة للهجرة.

وتعدد الوثيقة الأممية 23 اقتراحاً لفتح المجال أمام الهجرة الشرعية وإدارة موجة الهجرة العالمية التي تشمل أكثر من 250 مليون شخص يشكلون ثلاثة في المئة من عدد سكان العالم.

السنة الماضية بادرت الولايات المتحدة الى الانسحاب من المحادثات التي رفضتها دول أخرى مثل المجر والنمسا ولاتفيا وبولندا وبلغاريا وسلوفاكيا واستراليا. كل هذا لأن الأحزاب اليمينية المتطرفة باشرت في إتخاذ مواقف عنصرية ضد المهاجرين.

ويتردد في فرنسا أن المهاجرين هم الذين ألبسوا المضربين ستراتهم الصفر، لذلك قرر الرئيس ماكرون نزعها بهدف تعريتهم أمام الرأي العام!

 كاتب وصحافي لبناني

نقلا عن صحيفة الحياة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى