
أرأيتم كيف ينقضي شهر رمضان أسرع من البرق، فهكذا هي أيام الطاعات والعبادات.. الأيام النورانية، ما إن تنتبه لها حتى تجدها قد تفلتت منك فلقد صدق الله حيث قال.. أياما معدودات.
فها هي العشر الأواخر من رمضان قد أهلت علينا وهي أفضل ليالي العام، إذ تحتوي على ليلة القدر، التي أخبر الله -عزَّ وجلَّ- بأنها خير من ألف شهر. لذا، كان النبي ﷺ يجتهد في العبادة خلال هذه الليالي المباركة، ويحرص على تشجيع أهل بيته على اغتنامها في الطاعات والقربات.
وفي هذه الفائدة نستشعر كيف كأن النبي ﷺ يقضيها..
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ وشدَّ المئزر».
وفي هذا الحديث، وكما يوضح لنا موقع «مصحف المدينة» الذي أنهل منه هذه الومضة الرمضانية حيث تصف السيدة عائشة -رضي الله عنها- اجتهاد النبي ﷺ في العبادة خلال العشر الأواخر من رمضان، وحرصه على إيقاظ أهل بيته للمشاركة في الطاعات. تقول: «كان إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان»، أي بداية الليالي العشر التي تبدأ من ليلة الحادي والعشرين.
ثم تذكر أنه «شد مئزره»، وهو تعبير يشير إلى أحد معنيين: إما اعتزال النساء وترك الجماع تفرغًا للعبادة، أو الاستعداد والاجتهاد الشديد، كما يقال: «شدّ فلان مئزره» أي جدّ واجتهد.
وتضيف: «وأحيا ليله»، أي قضى الليل في العبادة من صلاة وذكر وقراءة قرآن. «وأيقظ أهله»، أي حرص على إشراك أهل بيته في هذه النفحات الإيمانية، وحثّهم على قيام الليل والتقرب إلى الله.
ويستفاد من الحديث أن اغتنام مواسم الخير يتطلب العزم والصبر والمجاهدة، وأن المسلم ينبغي أن يبذل جهده في الطاعات، لا سيما في الأوقات المباركة.
إذا أنا لم أشْكرك جَهْدي وطـاقتي***ولمْ أُصْفِ من قلبـي لك الودَّ أجمعـا
فلا سَلمتْ نفسي من السَّقْم ساعة***ولا أبْصرتْ عيني من الشمس مطلعا
وعن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- «إنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوَّلَ مِن رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ، في قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ علَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قالَ: فأخَذَ الحَصِيرَ بيَدِهِ فَنَحَّاهَا في نَاحِيَةِ القُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا منه، فَقالَ: إنِّي اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأوَّلَ، أَلْتَمِسُ هذِه اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فقِيلَ لِي: إنَّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ، فمَن أَحَبَّ مِنكُم أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ معهُ، قالَ: وإنِّي أُرِيتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وإنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا في طِينٍ وَمَاءٍ فأصْبَحَ مِن لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَدْ قَامَ إلى الصُّبْحِ، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ، فَوَكَفَ المَسْجِدُ، فأبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ، فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِن صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِما الطِّينُ وَالْمَاءُ، وإذَا هي لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ».
في الحديثِ حثٌّ على تحرِّي ليلةِ القَدْرِ واغتنامِها بالأعمالِ الصالحةِ، لما فيها من عظيم الفضلِ وجزيلِ الأجرِ. كما يتضمَّنُ الحثَّ على الاعتكافِ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ، اقتداءً بالنبيِّ ﷺ الذي لم يتركه منذ قدِمَ المدينةَ حتى وفاته.
وقد قال الإمامُ الزهريُّ -رحمه الله-: «عجبًا للمسلمين! تركوا الاعتكافَ، مع أن النبيَّ ﷺ لم يَدَعْهُ منذ قَدِمَ المدينةَ حتى قبضه اللهُ -عزَّ وجلَّ».
يا نائـم الليـل كـم ترقـد قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
وخذ مـن الليـل وأوقاتـه وردا إذا ما هَجَـعَ الرُّقـدُ
من نـام حتى ينقضي ليلـهُ لم يبلغ المنزل قبل أو يُجْهَدُ
قل لذوي الألباب أهلُ التقى قنطرةُ العرض لكـم موعـدُ
ومن باب كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فكان ﷺ لا يترك أحدا من أهله يستطيع القيام للعبادة والسهر للإحياء والقوة على ذلك إلا أيقظه، ذكر في فتح الباري: روى الترمذي ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة: «لم يكن النبي ﷺ إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه». قال القرطبي: وفيه حث الأهل على القيام للنوافل، وحملهم على تحصيل الخير والثواب، ويفهم منه تأكيد القيام في هذه العشر على غيره.
فلننهض في هذه الليالي العشر بروح السعي إلى الجنة ورضوان الله، ولنبلغ في الاجتهاد غاية وسعنا، متذكرين أن المحروم حقًا هو من حُرِمَ مغفرة الذنوب والعتق من النار. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عتقائه من النار، ومن المقبولين في هذا الشهر المبارك.
وغدا ومضة رمضانية جديدة