
رضا هلال يكتب: من الحديد والصلب إلى بلبن.. أي اقتصاد نريد؟
في الأيام الأخيرة، لم يعد صوت يعلو فوق صوت «بلبن». وإخوته (كرم الشام وبسبوسة والوهم) مطعم شبابي صغير، صعد بسرعة صاروخية، ثم اختفى فجأة وسط ضجة لا تقل عن ضجة صعوده.
وبينما تتصدر قصته «الترند»، وتُروى على المقاهي وفي برامج التوك شو، يطل علينا سؤال صادم: لماذا لم تحظَ قضية إغلاق مصنع «الحديد والصلب» بحلوان، وهي إحدى قلاع الصناعة الوطنية، بأي جزء من هذا الاهتمام الشعبي والإعلامي؟
السؤال لا يتعلق فقط بالفارق بين مطعم ومصنع، بل بما يكشفه هذا الفارق من خلل أعمق في الوعي الجمعي، وتحوّلات مقلقة في بنية الاقتصاد المصري، من إنتاج إلى استهلاك، ومن التصنيع إلى الترفيه.
بلبن: قصة ترند لا قصة اقتصاد
نجح «بلبن» في تقديم نموذج عصري لشركة أغذية شبابية، اعتمدت على الذكاء في التسويق، والمحتوى الخفيف، والتفاعل القوي مع جمهور وسائل التواصل. لم يكن النجاح فقط في جودة المنتج، فمنتجاته أقل من العادي، بل في صناعة صورة ذهنية جذابة جعلت من «البراند» حديث الناس.
لكنّ الإغلاق المفاجئ للمطعم – والذي قيل إنه لأسباب رقابية – فجّر حالة من التعاطف، وكشف عن عطش شعبي لأي قصة ملهية وسط واقع اقتصادي ضاغط. صار «بلبن» أكثر من مطعم؛ أصبح رمزًا لترند صاعد صدمه الواقع، وكأن الناس وجدت فيه مرآةً لأحلامها المؤجلة.
الحديد والصلب: منارة أُطفئت في صمت
في المقابل، حين أُغلق مصنع الحديد والصلب بحلوان، أحد أعرق وأكبر المصانع في الشرق الأوسط، لم تهتز السوشال ميديا، ولم تُطلق الحملات، ولم يتباك أحد على الحلم الصناعي المهدور. وكأن إغلاق المصنع – رغم ما يمثله من رمزية اقتصادية وسياسية وتاريخية – كان حدثًا إداريًا عابرًا.
هذا التجاهل لا يعكس فقط غياب الاهتمام الشعبي، بل يُظهر خللاً في أولويات الإعلام، وتراجع الحس الصناعي، وتآكل قيم الاعتماد على الذات في الإنتاج.
من الإنتاج إلى «الترند».. هل هذا اقتصاد؟
الفرق بين قصتي «بلبن» و«الحديد والصلب» ليس في الأهمية الاقتصادية، بل في أين توجه الوعي؟ وأين تُستثمر المشاعر والانتباه؟ مصر التي بنت القلاع الصناعية، وأنشأت السدود والمصانع والمدارس في وقت كانت فيه دول أخرى بالكاد تخرج من الاستعمار، تبدو اليوم وكأنها فقدت شهيتها للإنتاج الحقيقي، واكتفت بالاحتفاء بالسطحيات.
نحن لا نعيش فقط أزمة اقتصاد، بل أزمة خيال اقتصادي. خيال لا يرى في المصنع قيمة، بل يرى القيمة في «البراند»، ويبحث عن الربح السريع لا عن البناء الطويل.
أي اقتصاد نريد؟
هل نريد اقتصادًا يقوم على مطاعم وصور على إنستغرام، أم اقتصادًا يعيد الاعتبار للصناعة والزراعة والتعليم؟ هل نريد أن نحتفل بمطعم أغلق بعد سنتين، أم أن نطالب بمحاسبة من أغلقوا مصنعًا عمره سبعون عامًا؟
الاختيار ليس بين «بلبن» و«الحديد والصلب»، بل بين اقتصاد يُنتج ويُشغّل ويُعزّز الاستقلال، واقتصاد يتبع الترند ويعيش من الاستيراد والترف المؤقت.
نحن بحاجة إلى أن نعيد تشكيل وعينا الاقتصادي قبل أن نطالب بإصلاح الاقتصاد نفسه.