اخترنا لكدنيا ودين

رضا هلال يكتب: رمضان شهر الجود

ومضات رمضانية

ثمة ارتباط وثيق بين شهر رمضان وكثرة الصدقات، فقد كَانَ رسولُ الله ﷺ أَسْخَى خَلْقِ اللَّهِ وَأَكْثَرَهُمْ جُودًا وَسَمَاحَةً، يفيض كرمًا وعطاءً، و«ما سُئِلَ علَى الإسْلَامِ شيئًا إلَّا أَعْطَاهُ»؛ فكان ﷺ يجود ويعطي عطاءً يُدهِشُ السائلَ ويتركه مُتحيرًا، كما حدث مع ذلك الرجل الذي «أعْطَاهُ غَنَمًا بيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إلى قَوْمِهِ، فَقالَ: يا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فإنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لا يَخْشَى الفَاقَةَ»[مسلم (2312)].

وثبت في الصحيحيْن عن عبد الله بن عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ ‌أَجْوَدُ ‌بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ». [متفق عليه].

الجود هو سعة العطاء وكثرته، والله تعالى مُتّصفٌ بالجود، وهو كثرة الفضل والإحسان، ومنها اشتُق اسمٌ من أسمائه الحسنى وهو (الجواد)، وقد وصف النبيُّ ﷺ ربَّه سبحانه وتعالى بذلك في الحديث: «إنَّ اللهَ تعالى جَوَادٌ يحبُّ الجُودَ، ويحبُّ مَعالِي الأَخلاقِ، ويكرَهُ سَفسافَها» [أخرجه أبو نعيم في الحلية].

وقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أجود الناس» أي: أكثرهم جُودًا وسَخاوة، وصيغةُ (كان) هنا تقتضي تكرار فعله؛ أي: كان عادته أنه أجود الناس؛ فكانت هذه حاله الدائمة ﷺ، لكنه كان في شهر رمضان بشكل خاص يبلغ الذروة والمقام الأعلى في الإنفاق والجود والسخاء والعطاء. ولهذا شبَّه ابنُ عباسٍ جودَه في رمضان بالريح المرسلة. قال ابنُ حجر -رحمه الله-: «يَعْنِي أَنَّهُ فِي الْإِسْرَاعِ بِالْجُودِ أَسْرَعُ مِنَ الرِّيحِ، وَعَبَّرَ بِالْمُرْسَلَةِ إِشَارَةً إِلَى دَوَامِ هُبُوبِهَا بِالرَّحْمَةِ، وَإِلَى عُمُومِ النَّفْعِ بِجُودِهِ كَمَا تَعُمُّ الرِّيحُ الْمُرْسَلَةُ جَمِيعَ مَا تَهُبُّ عَلَيْهِ.» [فتح الباري (1/ 31)].

وفي الحديث «بَيَانُ عِظَمِ جُودِهِ ﷺ وَاسْتِحْبَابُ إِكْثَارِ الْجُودِ فِي رَمَضَانَ» [شرح النووي على مسلم (15/ 69)].

وقد نبَّه العلماءُ على عدة أسباب في مضاعفة جوده ﷺ في رمضان: «أحدها: أنه موسم الخيرات، وثانيها: أن الله تعالي يتفضل علي عباده في ذلك الشهر ما لا يتفضل عليهم في غيره، وكان ﷺ يؤثر متابعة سنة الله تعالي في عباده، وثالثها: أنه كان يصادف البُشرى من الله بملاقاة أمين الوحى، وبتتابع إمداد الكرامة عليه في سواد الليل وبياض النهار، فيجد في مقام البسط حلاوة الوجد، وبشاشة الوجدان، فينعم علي عباد الله بما يمكنه مما أنعم الله عليه، ويحسن إليهم كما أحسن الله إليه شكرًا لله علي ما آتاه»[شرح المشكاة للطيبي (5/ 1628)].

وحالُ النبيِّ ﷺ مع الجود والعطاء حالٌ عجيبة لا تكاد تجد لها شبيها ولا مُقاربا؛ فقد “كان ﷺ أعظم الناس صدقةً بما ملكتْ يدُه، وكان لا يستكثر شيئًا أعطاه لله ولا يستقِلُّه، وكان لا يُسأَل شيئًا عنده إلا أعطاه، قليلًا كان أو كثيرًا، وكان عطاؤه عطاءَ من لا يخاف الفقر،

وكانت صدقتُه وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله، فيُخرِج ما عنده.

فإذا علمتَ -أيها الحبيبُ- حالَ نبيّك ﷺ مع الجود والعطاء في رمضان، فلابد من أن تقتدي به وتسير على خطاه؛ قال الشافعي -رحمه اللّه-: «وأُحبُّ للرجل ‌الزيادةَ ‌بالجود في شهر رمضان اقتداءً به -ﷺ-ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم» [الحاوي الكبير (3/ 479)].

ومن أعظم أوجه الصدقة في رمضان تفطير الصائمين المحتاجين، إذ لا يقتصر فضلها على سد حاجتهم، بل تمتد لتكون عونًا لهم على أداء الطاعات، فينال من يعينهم مثل أجرهم، مصداقًا لقول النبي ﷺ: «مَن فطَّرَ صائمًا كانَ لَهُ مثلُ أجرِهِ، غيرَ أنَّهُ لا ينقُصُ من أجرِ الصَّائمِ شيئًا». [صحيح الترمذي (1956)]

ولا يخلو الصيام من بعض النقص أو الخلل، فقد يشوبه لغو أو تقصير، فجعل الله الصدقة وسيلة لتكميله وجبر ما قد يقع فيه من تقصير، ولهذا شُرعت زكاة الفطر في ختام الشهر المبارك، لتكون طُهرةً للصائم من أي لغو أو رفث قد بدر منه، فيختم صيامه بعمل صالح يُتمّ به أجره.

ومن هنا وجب علينا الاقتداء بحال النبي ﷺ في رمضان، وكما كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وخاصة في رمضان، فإن المسلم يُستحب له أن يضاعف كرمه في هذا الشهر المبارك، سواء بالمال، أو بالإحسان، أو بتفطير الصائمين، أو بالصدقة المعنوية من أمرٍ بمعروف، وإرشاد للخير، وكلمة طيبة، أو حتى بجاهه وسلطانه في إعانة إخوانه المسلمين وتيسير مصالحهم؛ فليكن هذا الشهر فرصةً لمضاعفة الخير، طلبًا للأجر العظيم وابتغاءً لمرضاة الله.

وغدا لنا لقاء مع ومضة رمضانية جديدة.

redahelal@gmail.com

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى