نون والقلم

د. يوسف بن مير يكتب: لحظة من التأمل في تطبيق اللامركزية في المغرب

يقرر البرلمان المغربي في هذه الأيام تمرير ميثاق اللامركزية في البلاد. وحيث أن مسودة هذا الميثاق لم تُنشر حاليّا ً، يمكننا فقط أن نأمل أن يدرك كل عضو برلماني أن مسار التنمية البشرية للأمة والعلاقات بين المؤسسات العامة والمدنية والخاصة تعتمد على إصدار ميثاق يفي بالغرض. كما سيحدد مفهومه وتنفيذه المدى الذي يمكن للمغرب أن يلهم من خلاله جيرانه من أجل التوصل إلى نهج مفعم بالأمل ويتفق مع روح العصر، ويُعتبر في الوقت نفسه تاريخي في تمكين الناس من تحقيق أفضل مسار في حياتهم.

ومع الاستفادة من الإدراك اللاحق، قد يعتبر المرء بدون تحيّز أن الالتزام العام للمغرب في سنة 2008 بإضفاء طابع اللامركزية على عملية صنع القرار، لا سيما فيما يتعلق بتنمية الشعب، كان بمثابة موقف يتّسم بالتفكير التقدمي والإستراتيجي. وكان إعلان الملك محمد السادس نصره الله وايده بأن المغرب سيبدأ إعادة هيكلة الإدارات العامة بمثابة تتويج لسلسلة من الإجراءات الأخرى التي سبقت العديد من الاعمال. وقد ساعد ذلك على إظهار اتساق المبادئ التشاركية التي توجه وتسرّع التنمية المستدامة.

وبالنظر إلى أن تحقيق اللامركزية في الإدارة يتم على أفضل وجه في سياق يشجع أيضاً مشاركة المجتمعات في تخطيط المشاريع، فقد أدرج المغرب بالفعل هذا المفهوم في مبادرته الوطنية للتنمية البشرية في سنة 2005. كما أن بناء اللامركزية قد تحقّق من قبل مجتمع مدني نشط والإدماج الكامل للمرأة في جميع جوانب التنمية الاجتماعية، التي توسّعت أطرها من خلال القوانين التي بدأ سريان مفعولها وتشغيلها في عامي 2002 و2004 على التوالي. ثم أعاد المغرب تأكيده في سنة 2010 على هذه القوانين في ميثاقه الجماعي، مفوّضا ًالمسؤوليات للقادة المنتخبين محليا لتسهيل التنمية البشرية باستخدام الطريقة التشاركية.

علاوة على ذلك، يمكن للمرء أن يستنتج أن تجربة المغرب في الربيع العربي أصبحت أكثر هدوء وتوحدا نتيجة لنوايا هذه الركائز التوجيهية التكوينية للتطور الاجتماعي، هذا إلى جانب دستوره الجديد الذي تم المصادقة عليه في عام 2011.

ومع كل هذا، نجد أنفسنا في هذه اللحظة في سنة 2018 مع ظروف وطنية مختلفة وتوقعات وحتى ظروف ملحّة.

لا يزال الفقر القروي متأصلاً بشكل واضح في العديد من مناطق القروية المغربية. وارتفاع الهدر المدرسي في صفوف الفتيات في التعليم بشكل حاد خاصة من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي، في حين تظل مياه الشرب الملوّثة عاملا رئيسا للأمراض وعامل معيق لالتحاق الفتيات بالمدارس. وبالرغم من بعض الأمثلة الرائدة من التعاونيات التي تكتسب زخماً وتتيح فرصاً متزايدة لأعضائها، فإن الغالبية العظمى منها تظل غير فعالة ومن دون الوسائل لتوصيل منتجاتها للأسواق المحلية او خارجها. وإضافة بُعد اخر من الصعب للغاية تحمله الا وهو وعي الناس بأن كل هذه الصعوبات القاسية يمكن تجنبها بشكل أساسي؛ فالفرص والحلول لمشاكلهم معروفة وقابلة للتطبيق. ومع ذلك، تظل هذه الأمور غير محقّقة سنة بعد أخرى، وعقداً بعد عقد.

اللامركزية هي في الأساس فكرة مفادها أن الأشخاص الذين يواجهون تحديات الحياة اليومية في مجتمعاتهم هم في أفضل المواقع لتصميم وإدارة المبادرات التي تعالج احتياجاتهم بشكل مباشر وتجلب لهم الفوائد التي يبحثون عنها. والشيء المتأصّل أيضًا في اللامركزية هو فهم العكس: اي انه في سيطرة مركزية ناذرا ما تحصل المجتمعات المحلية البعيدة عن عواصم صنع القرار على شيء من الاستدامة. ويرجع ذلك إلى أن المخططين المركزيين يفشلون على الأرجح في اختيار الإجراءات الملائمة للسياق والتي تعزز المصالح المختلفة للناس.

وفي الوقت الذي يعمل فيه أعضاء البرلمان المغربي من أجل المصادقة على ميثاق اللامركزية، فإنهم سيكونون مجتهدين لاحتضان العناصر التآزرية لمبادئ ملك المغرب المذكورة آنفاً في سنة 2008. ينبغي عليهم أن يتفحّصوا عن كثب في الدروس المستقاة من الدول الأخرى التي شرعت في هذه الطريقة النبيلة والإنسانية لتنظيم المجتمع. هؤلاء قد يجسدون على نحو استراتيجي الموقع الفريد للملكية والمساهمة الضرورية للغاية للتغلب على التحديات الأساسية للامركزية. وأخيرا، ينبغي أن يتذكروا أن اعمالهم ستكون بمثابة نموذج رائد يحتذي به للبلدان الأخرى في القارة الأفريقية والشرق الأوسط.

ومع وضع هذه الاعتبارات في الذهن، قد تكون التوصيات التالية مفيدة للمضي قدمًا:

أولاً، دمج المغرب في البداية لثلاثة مسارات لتحقيق اللامركزية وهي: التنازل عن السلطة لصالح الإدارات المحلية، التفكيك والتفويض، يسخر بشكل أساسي قدرات الحكومة الوطنية والشراكات شبه القطاعية الوطنية لتحقيق المشاريع التي تقررها المجتمعات المحلية. وهذا لا يشمل فقط المبدأ الرئيسي للتنمية المستدامة، وهو مشاركة الاشخاص، بل يعترف بما حدده الناس والذي يعتبر أكثر أهمية بالنسبة لهم. والنتيجة هي توليف النوايا الحسنة بين المجموعات الاجتماعية والقطاعات والتضامن والتنوع.

ثانياً، يشار إلى اللامركزية في المغرب بـ «اضفاء الطابع الاقليمي»، بمعنى أن تركيزها هو نقل السلطة إلى أقاليمها الاثنا عشر. ومع ذلك، تبقى المراكز الإدارية العامة الإقليمية في المغرب بعيدة جدا عن المجتمعات المتفرقة في ولاياتها القضائية. وهذا يسبب تأخيرا كبيرا في التفويضات والتراخيص الأساسية اللازمة لتنفيذ مبادرات التنمية والمضي  بها قدما. وحتى إضفاء الطابع الإقليمي، وهو تقسيم المناطق إلى اقاليمها، يشبه قيوداً غير ضرورية على الإجراءات المعقولة لتحقيق التغيير والنمو المستدامين.

وبدلاً من ذلك، ينبغي للمغرب أن يختار «الاقليمية» التي تستهدف البلديات كدوافع رئيسية للتنمية مع الإدراك أن العودة إلى المركزية في التوجه إلى المستوى الجهوي أو دون ذلك لا يزال احتمالاً مفتوحاً في حالة ظهور صعوبات إدارية. ومن المفهوم أن المغرب متردد في نشر السلطة المتعلقة بالتنمية إلى مستوى الاقاليم المحلية. فبعد كل شيء، الفروق الاجتماعية بين الطبقات والأجناس (الذكور والإناث) والمجموعات الاقتصادية والسياسية هي حقيقية وقوية على هذا المستوى كما هي على النطاقات الوطنية والدولية.

ومع ذلك، يمكن تحقيق الشروط لتفادي ترسيخ هياكل السلطة القائمة بالتنفيذ المرضي للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بالاقتران التام مع الميثاق الجماعي وهذا يتطلب إنشاء خطط تشاركية وتنفيذها، بحيث تكون مدفوعة من قبل المجتمعات المحلية.

هذه اللحظة من الحساب والتقدير تتمحور على هذه القضية أكثر من أي شيء آخر. فإذا كان مستوى البلديات أولًا قد شهد تنمية مستدامة من خلال أسلوب المشاركة، فإنّ تمكين مستويات اعلى من تلك أقرب إلى الناس، أي المستوى الجهوي والإقليمي، سيثبت على الأرجح أنه غير مرضٍ وناضج، مليئا ًبالبقايا والمخلفات الباثولوجية والعمليات المركزية.

ثالثاً، هناك درس حاسم قد تعلمه المسؤولون والمراقبون الحكوميون على السواء في السنوات العشر التالية من إعلان المغرب لأول مرة عن نيته في تطبيق اللامركزية، حتى اليوم، حيث يجري الآن حوار حول ميثاقه النهائي. من الصعب للغاية تخيل أن النظام الحكومي المركزي في المغرب يمكن أن يحلّ مركزيته دون ميسر كطرف ثالث لإقامة الروابط الإنتاجية بين المستويات الإدارية وقطاعات المجتمع. كما ينبغي أن يكون لدى الحكم الضروري قدرة استنسابية للتأثير على الوصول إلى الموارد المالية وتخصيصها من أجل تحقيق التوازن بين فرص التنمية المحلية والبلدية. ولكي نكون اكثر واقعية، إذا كانت اللامركزية المغربية ستعرف مداها بالكامل، فقد نحتاج إلى أحد أو كلا الأمرين التاليين: أن يؤدي جلالة الملك هذا الدور التحكيمي، أو سيكون هناك حاجة  إلى إنشاء وزارة لا مركزية تعمل على جميع المستويات. إن التحدي كبير جدّا ً والتداعيات ذات طابع وجودي للغايةً لأي شيء أقل من المشاركة الكبرى.

إن المغرب بطل مبكر في تطبيق اللامركزية، كما أن خارطة الطريق المدروسة والتقدمية التي أنشأها لنفسه منذ البداية قبل عشر سنوات تظل حيوية للتنفيذ. ومع ذلك تبقى الأسئلة: هل ستنقل السلطة إلى الناس بطريقة تمكنهم فعليًا من التفاعل معها والوصول إليها؟ هل سيخلق المغرب بيئة تشاركية لتمكين فوائد اللامركزية من تشكيل علاقات مثمرة ومتبادلة؟ هل ستمرّر البلاد ميثاق آخر، أو برنامج أو سياسة ملهمة، أم أنها ستكمل فعليّا ًرحلتها في التجارب الحقيقية واليومية للناس؟

عالم اجتماع ورئيس مؤسسة الأطلس الكبير، ومقرها مراكش

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى