لا يبدو أن غلاة المستوطنين وعتاة المتدينين الإسرائيليين راضون عن خطة ترامب، المعروفة باسم «صفقة القرن»، أو موافقون عليها ومؤيدون لها، بل إن أغلبهم يعارضونها وينددون بها ويريدون إسقاطها، ويحذرون حكومتهم من مغبة الانجرار إليها والوقوع في شراكها، ويقولون بأنها تتعارض مع معتقداتهم، وتتصادم مع أحلامهم، وتتجاوز ثوابتهم، وتغتال مخططاتهم، فهي تقضي على لب الدولة اليهودية، وتتنازل عن الأرض المقدسة، وتفرط في إرث الأنبياء وممالك بني إسرائيل التاريخية، التي كانت قبل آلاف السنين في «أور شاليم ويهودا والسامرة»، التي يريد ترامب أن يحرمهم منها ويمنح الفلسطينيين ثلثيها، ليقيموا عليها دولتهم المستقلة وكيانهم الخاص.
يعتقد المتطرفون الإسرائيليون أن الإيمان بمخططات ترامب خيانةٌ للديانة اليهودية، وتفريطٌ في حقوق اليهود وموروثاتهم، وهو ما لا يحق لأي حكومةٍ أن تفرط فيها أو تتنازل عنها، ويدعون الشعب اليهودي إلى إعلان الحرب عليها وإسقاطها، وعدم التجاوب مع الرئيس الأمريكي ومستشاريه ولو كانوا يهوداً مثلهم، أو مستوطنين يعيشون بينهم، فهم –برأيهم- لا يحكمون الشريعة اليهودية في سياستهم، ولا يخضعون للتوراة في أحكامهم، وإنما تحركهم المصالح، وتقودهم سياسة الصفقات التجارية والعقود العقارية، ظانين –لجهلهم- أن «إسرائيل» مجرد أرض وجغرافيا، تتطلع إلى التوسع الجغرافي والامتداد الطبيعي، بعيداً عن أرض الميعاد والمقدسات، ومقامات الأنبياء وممالك بني إسرائيل التاريخية.
يتهم المتطرفون الإسرائيليون بشقيهم، اليميني القومي والديني المتشدد، ومن بينهم المستوطنون الذين يشكلون قاسماً مشتركاً بين المعسكرين، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالجهالة والغباء، والعجرفة والكبرياء، ويصفونه بالأحمق المفيد، وإن بدا لهم أنه يساعدهم ويقف إلى جانبهم، إلا أنه لا يفهمهم ولا يعي معتقداتهم، ولا يعيش معهم أحلامهم وطموحاتهم، ولا يشاركهم آمالهم وتطلعاتهم، ويعتقدون أنه بأفكاره وخططه يضر بهم ولا ينفعهم، ويضغط عليهم ويقهرهم، ويدمر مشروعهم ويفسد مخططاتهم، رغم أنه يشكل مظلةً لهم، تحميهم وتصد عنهم، وقوةً دافعةً لهم، تحركهم وتشجعهم، ولهذا فإنهم يرون أهمية الاستفادة منه خلال فترة ولايته، وتحقيق أقصى ما يستطيعون خلال رئاسته، شرط ألا يقدموا للفلسطينيين تنازلاً، أو للأمريكيين والمجتمع الدولي تعهداً يفضي إلى خسارتهم أرضهم المقدسة وحقوقهم التاريخية فيها.
يروج المستوطنون فيما بينهم، في غرفٍ مغلقةٍ بعيداً عن الإعلام، لكن بجديةٍ واهتمامٍ، خرائط خاصةً بهم، تعبر عن معتقداتهم، وتترجم تصوراتهم عن الضم، وتعبر عن رؤيتهم المرحلية لشكل الدولة العبرية، فهم يرون مرحلياً فقط الاستفادة من مخططات ترامب والبناء عليها، وضم ما نسبته 35% من أرض يهودا والسامرة إلى كيانهم، وتطبيق القانون اليهودي عليها فوراً، لجهة التملك وحق الإقامة، فلا يقيم فيها أو يتملك غير اليهود أرضاً أو عقاراً، ويتم إخراج كل العرب منها، على ألا يتم مبادلتهم أو مقايضتهم بيهودٍ آخرين، يعيشون في مستوطناتٍ متفرقةٍ وتجمعاتٍ مبعثرة، بل إنهم يصرون على وجوب التمسك بكل البؤر الاستيطانية، أياً كان موقعها، وبغض النظر عن عدد المستوطنين المقيمين فيها، فهي من وجهة نظرهم حقوقٌ يهودية مستعادة، لا فرق بينها وبين أكبر المستوطنات السياسية وأكثرها أهمية أمنية.
لا يقتصر التطرف في الرؤية والتشدد في الموقف، والحنق على ترامب والسخط عليه والغضب منه، على المستوطنين الإسرائيليين في الكيان الصهيوني، بل إن قطاعاً كبيراً من المسيحيين الانجيليين في الولايات المتحدة الأمريكية، ومعهم دهاقنة اللوبي اليهودي وزعماء الحركة الصهيونية، يرون وجوب الاستفادة من ترامب فقط فيما يخدم الأهداف الصهيونية ويتوافق معها، ويرفضون أن ينساقوا كلياً وراء أفكاره، مخافة أن يخلق إلى جانب «إسرائيل» كياناً فلسطينياً مستقلاً، يشكل خطراً على الدولة اليهودية، ويحول مستقبلاً دون ضمها والتمدد فيها، ولهذا فإنهم يبذلون قصارى جهودهم لتوظيف أمهر المستشارين وأكثرهم إخلاصاً لهم وولاءً لمشروعهم، في البيت الأبيض إلى جانب ترامب أو قريبا منه، ليقدموا له النصح والمشورة التي تناسب الرؤية الصهيونية.
ربما يكون هذا الفريق من المستوطنين هو الأصدق والأكثر تعبيراً عما يجول في خاطر الإسرائيليين، فهم في أغلبهم يتطلعون إلى العودة إلى «يهودا والسامرة»، التي يرونها في قلب القدس والخليل، وفي نابلس وسلفيت وبيت لحم ورام الله، وفي جنين وطوباس، وفي قلقيلية وطولكرم، ولهذا فإنهم يزرعون فيها أكبر مستوطناتهم، وأكثر تكتلاتهم، التي باتت تستحوذ على ما يزيد بكثيرٍ مع الطرق الالتفافية ومعسكرات الجيش وثكناته، عن 40% من الضفة الغربية، التي لن يجد سكانها بعد ذلك فرصةً للعيش الكريم فيها، أو سبلاً للحياة الممكنة والآمنة، مما سيضطرهم للرحيل طوعاً أو كرهاً إلى الضفة الشرقية، التي يؤمن المتدينون اليهود والقوميون الإسرائيليون أنها تصلح للمواطنين العرب «الفلسطينيين» للعيش فيها، وبناء دولتهم على أرضها، أو المشاركة مع سكانها في الحكم والإدارة.
إن التصدي لمؤامرات ترامب وإفشالها، والصمود في مواجهة مخططات نتنياهو وإسقاطها، هو جزءٌ من المعركة الكبرى مع المشروع الصهيوني الذي يستهدف فلسطين كلها والمنطقة بأكملها، وحتى تسقط هذه المخططات وتفشل، لا بد من وحدةٍ فلسطينيةٍ جامعةٍ، تجمع شتات القوى وأطياف الفصائل والأحزاب، ورؤيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ، وقيادةٍ رشيدة، صادقة مخلصة قادرة وواعية، تأخذ على عاتقها إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني، وبناء هياكله القيادية، وفق قواعد جديدةٍ، تقوم على المبادئ الأصيلة والثوابت القديمة، والحقوق التاريخية والشرعية للشعب الفلسطيني، وإلا فإن القادم أكبر وما خفي من مخططاتٍ أخطر.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية