نون والقلم

د. طلال أبو غزالة يكتب: أَقول ورزقي على الله.. «القادم أسوأ»

التحول الرقمي: لقد أكدت في مناسبات سابقة متتالية أن التحول الرقمي هو ظاهرة حتمية، يتسارع تحكمه في حياة الإنسان، بدرجة قد تفوق قدرته على التكيف معها، إن لم نتخذ الإجراءات اللازمة لمواكبة هذا التطور. في النتيجة ستصبح التعاملات كلها بين الدول والأفراد «رقمية» دون تواصل بشري. لقد تحقق كثير من هذا التطور، حتى الآن، ولكن المزيد آت قريبا، وسيشمل النشاطات والممارسات كافة، إما لإحكام السيطرة الكاملة على نشاط يتم حاليا التعامل الرقمي به جزئيا كالتعلم، والإدارة، والتجارة، والنقل، وغيرها، وإما لغزو نشاطات إنسانية جديدة لم تنتقل بعد من إطارها التقليدي إلى الإطار الرقمي.

إزاء ذلك، علينا أن نستعد للثورة الرقمية بكامل تجلياتها، حتى لا نتخلف، وتتوسع الفجوة بين التقليدي، فاقد الصلاحية، والحديث الذي يمثل المستقبل.. إنها مسابقة مع الزمن ولا مجال فيها إلى الانتظار أو التراخي.

الصراع على أحادية النظام الدولي: أحادية النظام – أو النظام الدولي الخاضع للقطبية الأحادية – تعني ببساطة تحكم دولة عظمى بمصير بقية دول العالم، من خلال سيطرة تلك الدولة على منظمة الأمم المتحدة، وتحكمها بقراراتها. وهذا الوضع هو أسوأ ما يمكن أن يبتلى به عالمنا، من حيث ممارساته التي لا تخضع إلى القانون الدولي، ولا إلى مبادئ التعامل السليمة بين الدول، ولا إلى معايير العدالة، ولا إلى احترام حقوق الدول الأخرى أو مصالحها المشروعة، وبالتالي فإن ممارسات القطب الواحد قد تجر إلى كل ما يخالف ذلك مثل شن الحروب، والعدوان، وفرض العقوبات، والهيمنة، وفرض السيطرة بأساليب الابتزاز والتهديد والترهيب وغير ذلك. إن هذه الظاهرة مألوفة لدينا في الوطن العربي، نتيجة لما تتعرض لها دولنا من تسلط الدول العظمى منفردة أو مجتمعة.

هل «ثنائية النظام» هي الحل؟ أي «حكم القطبين». الجواب قطعا «كلا».

خلال مرحلة الحرب الباردة (أي قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي) كان النظام الدولي يخضع لقطبية ثنائية، الاتحاد السوفييتي، وحلفائه من جهة، والولايات المتحدة، وحلفائها من الجهة الأخرى.. وقد أوجدت القطبية الثنائية بعض التوازن، من حيث تصدي أحد القطبين لأي إجراء من القطب الآخر قد يمس مصالحه، أو مصالح الدول التابعة له.

وهذا التصدي المتبادل منع حالات تسلط فردية، أي منع الضرر، وليس بالضرورة تحقيق العدالة، ولا حتى المنفعة، وهذا في حالة الاختلاف على موقف ما، ولكن هنالك أمثلة على اتفاق القطبين على إجراءات، وسياسات لم تكن متطابقة مع القانون الدولي.. وفي مثل تلك الحالات كانت المنظمة الدولية تخضع لاتفاق الكبار، وتصدر قرارات مجحفة، وغير قانونية بحق الدول الضعيفة.

الدولار كعملة دولية: عندما انهار الاتحاد السوفييتي في العقد الأخير من القرن الماضي استقر التحكم بالنظام الدولي برمته للقطب الآخر، أي الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها. وقد عززت السيطرة الأميركية إخضاع النظام المالي برمته للدولار الأميركي الذي أصبح المرجع الوحيد لجميع العملات والتعاملات بين جميع دول العالم.

وقد أوجد ذلك سلاحا فتاكا في يد الولايات المتحدة، فاستخدمته بصمت في العقوبات، لشل قدرة أي دولة تخرج عن الطاعة الأميركية، فلا يمكن إجراء أي معاملات مالية دون المرور عبر الدولار: لا بيع، ولا شراء، ولا استيراد، ولا تصدير، ولا قدرة على الاستفادة من العملة الوطنية للدولة المعاقبة.

تفاقمت ظاهرة العقوبات الاقتصادية وهيمنة الدولار لدرجة ألقت بظلالها الخطيرة على جميع اقتصادات العالم دون استثناء بما في ذلك الاقتصاد الأميركي.

عملة (بريكس) كمنافس دولي: من الطبيعي أن ذلك استفز ردود أفعال من قبل الدول المتضررة، لاتخاذ إجراءات مضادة، ولقد بدأت بجهود صينية لطرح بديل للتداول المالي عن الدولار يبدأ في إطار دول معينة، ثم يتوسع!

ونشهد الآن ما كشف عنه الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) أن العمل يجري على إنشاء عملة احتياطية دولية تعتمد على سلة من عملات دول مجموعة «بريكس»، خلال كلمة للمشاركين في منتدى أعمال «بريكس» الذي عقد أخيرا، وكلمة «بريكس» هي مختصر للحروف الأولى باللغة اللاتينية BRICS المكونة لأسماء الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، وهي: البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا.. حيث قال: «جنبا إلى جنب مع شركاء البريكس يجري تطوير آليات بديلة موثوقة للتسويات الدولية، ونظام نقل الرسائل المالية الروسي مفتوح لربط بنوك هذه البلدان».

وأضاف: «إن جغرافية استخدام نظام الدفع الروسي «مير» آخذة في التوسع، ومسألة إنشاء عملة احتياطية دولية على أساس سلة من عملات بلدان مجموعة «بريكس» يجري العمل عليها»، وأشار إلى أن دوائر أعمال «بريكس» تتوسع باستمرار في العلاقات ذات المنفعة المتبادلة في المجالات التجارية، والمالية، والاستثمارية، بالرغم من المشاكل والصعوبات كلها.

تحديات الحروب وأخطارها: يواجه العالم اليوم كوارث متلاحقة، إما نتيجة للحروب والصراعات، والتي بدلا من أن تقوم المنظمة الدولية وأعضاؤها المنفذون بالعمل على إطفائها بحسب القانون الدولي تكتفي بالتصريحات الفارغة، وإعلان الأمنيات الباهتة، بينما يتسابق أعضاؤها لـ «صب الزيت على النار»، في حروب متتابعة، التي آخرها كانت الحرب بين روسيا وأوروبا، ولم نلمس أي جهد دولي صادق لوقف هذه الحرب، ولا لوقف الدمار، والموت، والخراب، والحصار، والعقوبات، والكوارث التي نشهدها في كل لحظة، بل ما نشهده هو تسابق الأطراف على التحريض، وفرض الحصار، وإرسال السلاح، والمرتزقة، والتدمير، وقطع التواصل، وهدر المقدرات بأنواعها.. وخلق أزمات خانقة في أنحاء العالم بلا أي مبرر.

وفي ظل مثل هذا النظام الدولي المشلول! وعندما تحجم الأمم المتحدة عن القيام بواجبها، تنكفئ كل دولة على حالها، لتحمي نفسها من الدول الأقوى منها، ولتؤمن حاجاتها، ومصالحها.. وعندئذ تضطر تلك الدول لهدر مواردها على التسلح والتخندق بدلا من إنفاق ما لديها على البناء، والتنمية، وتطور الحياة فيها على نحو أفضل، ولأنه ليس بمقدور أي بلد أن يؤمن لنفسه الحماية الكافية، فقد وجد النظام الدولي ممثلا بـ «الأمم المتحدة»، لتوفير الحماية والأمن والسلم لأعضائها، ولتعفيهم من مهمة القيام بذلك بصورة منفردة.

تراجع العولمة: مع الأسف هذا هو الوضع حاليا. ونتيجة لذلك انكفأت الدول على نفسها، لحماية مصالحها، بل لحماية وجودها، وتراجعت من إطار العولمة نحو شعار: «بلدي أولا»!

«العولمة» هي الحالة التي نجمت عن زوال المسافات، والحواجز التي كانت تفصل بين دول العالم، نتيجة لتطور وسائل النقل، والاتصال، والتواصل بأنواعها.. ونتيجة لذلك انفتحت دول العالم تلك على بعضها، فتقاربت الشعوب، وسهل السفر، وتيسرت سبل التعامل والتعاون وتبادل المصالح إلى درجة أجازت أن يطلق على الكرة الأرضية بأنها قرية واحدة.

ومن الطبيعي أن الانفتاح لم يكن كاملا، لضرورات موضوعية ومفهومة.. ولكن التواصل يتزايد بالرغم من أن نزعات التطرف، والعنف، وعصابات الشر التي استفادت من زوال الحواجز، كانت قد تمكنت من اجتياز الحدود بسهولة، لترتكب جرائم، وفظائع بحق أبرياء، مما أجبر الكثير من الدول على إعادة فرض قيود على الحركة كانت قد أزالتها سابقا!

وهكذا تضاربت المواقف بصدد أهمية العولمة.. فهناك من أدانها وحملها مسؤولية الفوضى التي سادت في زمنها، وهناك من عدها ظاهرة طبيعية وحتمية، ولو أحسنا استغلال إيجابياتها وتسهيلاتها بحكمة، وفي ظل نظام دولي فاعل، لما كانت الفوضى.. ولذلك لا يجوز تصنيف العولمة على أنها «إما ظاهرة حسنة أو ظاهرة سيئة»، فهي ظاهرة طبيعية، وغير مسؤولة عن أي إساءة من صنع أيدينا وقعت في ظلها.

فشل النظام العالمي: إن جاز أن ينسب إلى العولمة أي فشل، فإنه سيكون نتيجة الفوضى الناجمة عن فشل النظام العالمي القائم، وعن عجز الأمم المتحدة.. فعندما يصلح النظام الدولي تصلح معه أمور كثيرة أخرى، وعندئذ ننتقل من: زمن الحروب، والصراعات، وسباق التسلح، والتخلف، وانتشار الأوبئة، والمآسي الإنسانية، وانتشار ظاهرة اللجوء، وتدمير البيئة، وهدر المقدرات المتاحة، ونشر نزاعات الكراهية، والتطرف، والإرهاب الأعمى، وتهديد حياة الأفراد، والمجتمعات.. مهما كانت بعيدة عن مواقع الصراع – ننتقل من كل ذلك إلى عالم يسوده الأمن، والرخاء، والازدهار، والتقدم، والسعادة، والتعامل النبيل بين جميع شعوب الأرض في ظل حماية نظام دولي نزيه، وحكيم، وفاعل.

والقادم أسوأ!!

1 – تحديات صعود الصين.

2 – ويلات الحروب.

3 – المجاعة ونقص الغذاء والدواء.

4 – حروب الطاقة وانقطاعاتها.

5 – تحديات العملات الدولية.

6 – مخاطر الفجوة التقنية.

7 – نظام عالمي غير عادل.

8 – الأزمات الاجتماعية.

9 – أزمة الكساد والغلاء.

10 – حوكمة الإنترنت وتحديات البدائل.

11 – التلوث البيئي يزداد خطورة بالعودة إلى الفحم.

12 – أزمة المياه.

13 – تحديات الأوبئة.

14 – العقوبات الأحادية وارتداداتها.

15 – أزمة البطالة والفقر.

16 – الخلافات حول مبادئ حقوق الملكية الفكرية.

17 – مشاكل سلاسل التوريد.

الحل: الحاجة إلى الديموقراطية بين الدول، كما هي في الدول: الحل لمثل هذه المعضلات وغيرها، إذن، هو نظام دولي ديموقراطي ملتزم بميثاق الأمم المتحدة الذي يساوي بين الدول جميعها في حقوقها الكاملة، ويوفر لها الحماية الدولية اللازمة من أي اعتداء، أو تجاوز من أي طرف كان.

ولن يتحقق هذا الوضع دون الاتفاق الصادق بين ما يسمى بالدول العظمى على احترام المنظمة الدولية، وقانونها، وميثاقها، وإلغاء حق (الفيتو) الذي ميز خمس دول عن بقية الدول الأعضاء في المنظمة الدولية البالغ عددها أكثر من 193 دولة.

وبغير ذلك سيبقى النظام الدولي مشلولا، وعاجزا عن تحقيق أي قدر من مقتضيات الميثاق، التي من أهمها الأمن والسلم للدول. ولذلك تنتشر الحروب والصراعات والأزمات الاقتصادية دون أن تحرك الأمم المتحدة أي ساكن، ويستمر تدمير البيئة، نتيجة لعدم التزام الدول المتنفذة بالإجراءات اللازمة لحماية البيئة عندما تتعارض تلك الإجراءات الأساسية مع مصالحها الصناعية والتجارية والاقتصادية بشكل عام.

نداء إلى حكماء العالم: تعودنا على ظاهرة «اشتدي أزمة تنفرجي» أي إن الاتفاق بين الأقطاب لا يتحقق إلا بعد الحروب، وكلفتها، ودمارها، وعندما يهلك المتحاربون يجبرون على التوجه نحو طاولة التفاوض.. فلماذا لا يعكسون المسار ويتفاوضون بالحكمة والحجة حول طاولة التفاوض بدلا من الاحتكام إلى السلاح أولا! وبدلا من التدمير قبل البناء؟

كل ما أقول إنه في حال فشل القادة في الاتفاق على نظام دولي تنفذه (منظمة الأمم المتحدة) وأجهزتها المختلفة، فعلى حكماء هذا العالم أن يقولوا كلمتهم.. وعليهم أن يتلاقوا، لوضع نظام وقانون لعالمنا أمام القادة، لعلهم يبصرون الحكمة ويهتدون بها.

أختتم قولي: إن المضي على ذات الطريق التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، هو طريق خطر! وما ينتظرنا عليه هو أخطر بكثير مما شهدناه! على فظاعة ما شهدناه.. وعلينا ألا نمضي على طريق الهلاك، وأن نسلك المسار الآخر.

وبصفتي الرئيس الفخري لملتقى البحث الدولي «قمة البوسفور» مند تأسيسها قبل عشر سنوات، سأدعو مؤتمرها القادم لدعوة فريق دولي من حكماء العالم (من غير الحكوميين)، لتشكيل مجلس لدراسة القضايا الخلافية الدولية الرئيسة، واقتراح حلول لها، ولعرضها على طاولة المفاوضات لصانعي القرار، الذين سيجلسون حولها بعد الحرب، كما يحصل في نهاية كل حرب. وذلك لأن الأمل ضعيف – من معرفتي المباشرة – بإمكانية حصول أي مفاوضات مجدية قبل نهاية الحرب.

abughazaleh@tag.global

نقلا عن صحيفة الأنباء الكويتية

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

 

t   F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

زر الذهاب إلى الأعلى