نون والقلم

خيرالله خيرالله يكتب: استقالة الحريري لم تكن عشوائية

من أسوأ ما يحصل حاليا في لبنان، هو تجاهل الموضوع الأساسي والغرق في التفاصيل. الموضوع الأساسي هو مضمون بيان الاستقالة الذي تلاه الرئيس سعد الحريري من الرياض وشرح فيه الأسباب التي دفعته الى اتخاذ قراره بالاستقالة. امّا التفاصيل فهي في تجاوز أسباب الاستقالة والتركيز على ان الحريري محتجز في السعودية. يترافق ذلك مع تعبئة يتولاها «حزب الله» للبنانيين في اتجاه الدعوة الى عودة رئيس مجلس الوزراء المستقيل الى بيروت على الرغم من انه ليس هناك من يضمن امنه.

 

من المفيد إعادة التذكير بانّ الحريري حرص في بيان الاستقالة على الإشارة الى ان الأجواء السائدة في لبنان تشبه الأجواء التي سادت في مرحلة ما قبل اغتيال والده رفيق الحريري مع رفاقه في الرابع عشر من فبراير من العام 2005. لم يعد سرّاً من اعدّ لعملية الاغتيال ومن غطّاها ومن نفّذها. كشفت المحكمة الدولية كلّ شيء تقريبا وسمّت المتهمين بالتنفيذ الذين ينتمون الى «حزب الله». المفارقة ان الحزب يرفض تسليم هؤلاء الى المحكمة. لديه سياسة تقوم على فرض امر واقع عبر سلاحه غير الشرعي الذي لا هدف له سوى تدمير مؤسسات الدولة اللبنانية او ما بقي منها… وصولا الى تكريس لبنان مستعمرة إيرانية. فجأة صار هناك حرص لدى «حزب الله» على شخص الحريري. لو كان هذا الحرص حقيقيا، لماذا لم يفوت الحزب فرصة لاظهار انّه فوق القانون وان لبنان ليس سوى قاعدة للنشاطات الايرانية في المنطق وللميليشيات المذهبية التي تعمل بتوجيهات من طهران في العراق وسورية واليمن والبحرين وغير ذلك من الدول العربية. تحوّل لبنان الى بلد معاد لكلّ ما هو عربي في المنطقة، فيما الحكومة عاجزة عن الاقدام على ايّ خطوة تؤدي الى وضع حدّ لهذا الوضع غير السليم. انّه وضع لا يشبه سوى ذلك الذي كان قائما ايّام «جمهورية الفاكهاني» التي اقامها الفلسطينيون في بيروت. كان هناك ثوار من مختلف انحاء العالم، بما في ذلك اليابان، يتدرّبون على السلاح والقتال في تلك الجمهورية التي استمرت حتّى العام 1982 والتي كانت دولة داخل الدولة اللبنانية، بل اقوى من الدولة اللبنانية.

 

يفترض في اللبنانيين التصالح مع الواقع المتمثّل في ان بلدهم يعيش في ظلّ سلاح «حزب الله» الذي تحوّل الى ميليشيا تعمل في كلّ المنطقة العربية وتشارك من منطلق مذهبي في الحرب على الشعب السوري. هل طبيعي ان يستمر؟

 

لا بدّ من انصاف الحريري الذي بذل كلّ ما يستطيع من اجل تفادي الفراغ الرئاسي في مرحلة ما قبل انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية. هناك منطق متكامل لديه يبرّر ضرورة ان يكون للبنان رئيس للجمهورية. لكنّ المؤسف ان «حزب الله» اعتبر ما قدّمه الحريري من تنازلات ضعفا وان في استطاعته استخدام الحكومة للذهاب الى النهاية في سياساته التي يختزلها كلام علي اكبر ولايتي مستشار «المرشد» الايراني علي خامنئي. لم يتورّع ولايتي عن قول كلام بعد مقابلته الحريري يفهم منه صراحة انّ على رئيس الوزراء اللبناني ان يكون في رعاية «حزب الله» وحمايته وان يعلن ولاءه للحلف الإقليمي الذي ينتمي اليه الحزب.

 

كان منطقيا ان يستقيل الحريري. استقالته تعني الاستقالة التلقائية لحكومته التي تشكّلت أصلا في ظل موازين للقوى لا تحترم اللبنانيين الرافضين لان يكون بلدهم مجرّد تابع لإيران. ليس صحيحا ان لبنان منقسم على نفسه. الصحيح انّ هناك أكثرية لبنانية ترفض سلاح «حزب الله» وتعتبره تهديدا وجوديا لكلّ مواطن لبناني ولكلّ مؤسسة لبنانية. في النهاية، استطاع «حزب الله»، بفضل سلاحه، منع مجلس النوّاب انتخاب رئيس للجمهورية طوال سنة ونصف السنة، في نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان. فرض الحزب في نهاية المطاف الرئيس الذي يريده بعد تخيير اللبنانيين بين الفراغ الرئاسي… وميشال عون.

 

حاول رئيىس الجمهورية اللبنانية، منذ انتخابه، عمل كلّ ما يستطيع كي يكون على مسافة واحدة من الجميع. لكنّ هذه المحاولة لم تنجح على الرغم من كلّ النيات الطيبة المتوافرة لدى شخص يريد ان ينهي حياته بان يكون رمزا للوفاق بين اللبنانيين في بلد يعيشون فيه متساوين امام القانون.

 

الأخطر من ذلك كلّه، ما كشفه اطلاق صاروخ باليستي من صنع إيراني من الأراضي اليمنية في اتجاه مطار الرياض. اطلق هذا الصاروخ في وقت هناك من يؤكد ان «حزب الله» متورط الى ما فوق رأسه الى جانب الحوثيين (انصار الله) في اليمن. فوق ذلك، هناك حضور حوثي دائم في بيروت ومناطق لبنانية أخرى، كما انّ كلّ اعلام «انصار الله» الموجّه ضد السعودية يعتمد على بيروت وليس على ايّ مكان آخر في المنطقة.

 

لم يكن طبيعيا ان يستمر الوضع في لبنان على حاله وان يتابع «حزب الله» عملية وضع اليد على مؤسسات الدولة اللبنانية بعد إقرار انتخابي يقوم على النسبية يسمح له مستقبلا بالانتقال الى مرحلة استخدام مجلس النواب لتنفيذ مآرب معيّنة. بين هذه المآرب اللجوء الى الوسائل القانونية لتحويل سلاح «حزب الله» الى سلاح شرعي على غرار ما هو عليه «الحشد الشعبي» في العراق.

 

كان صعبا، بل مستحيلا، بقاء الوضع في لبنان على حاله في انتظار اليوم الذي يستطيع في «حزب الله» تبييض سلاحه وتحويله الى سلاح شرعي، في حين انّه ليس سوى سلاح مذهبي في خدمة ايران.

 

كان لبنان في حاجة الى صدمة كي يستفيق مواطنوه ويدركوا ان بلدهم صار معزولا عربيا وانّه يستخدم ضدّ كلّ دولة من دول الخليج العربي بطريقة تهدّد امنها. لم يكن امام دولة مثل المملكة العربية السعودية ان تبقى ساكتة عندما ترى انّ امنها صار مهددا انطلاقا من لبنان. اكثر من ذلك، هناك حزب في الحكومة اللبنانية يضرب بعرض الحائط القرار 1701 الصادر عن مجلس الامن الذي امّن 11 سنة من الهدوء الى الجنوب اللبناني. لا همّ لبنانيا لدى الحزب، غير همّ ان يكون البلد منصّة تنضح عداء لدول الخليج العربي وللبنانيين العاملين في الخليج. كيف يمكن لحزب لا يهمّه مصير المواطن اللبناني، بما في ذلك المواطن الجنوبي، ان يكون لديه ايّ هم عربي من ايّ نوع باستثناء خدمة ايران ومشروعها التوسّعي؟

 

ليس بعيدا اليوم الذي ستتبيّن فيه بوضوح ما لا يزال خافيا في استقالة الحريري. الثابت ان المنطقة تبدو مقبلة على احداث كبيرة في ظلّ الممارسات الايرانية التي لا تريد ان تأخذ في الاعتبار انّ هناك حدودا لما تستطيع ان تفعله دولة، يعيش اكثر من نصف سكّانها تحت خط الفقر، تريد التدخل في كلّ بلد من بلدان الشرق الاوسط من منطلق انّها ستكون قادرة على عقد صفقات مع «الشيطان الأكبر» الاميركي و«الشيطان الأصغر» الإسرائيلي بعدما وضعت روسيا في جيبها.

 

بعد الاحداث الكبيرة التي تبدو المنطقة مقبلة عليها، سيظهر جليّا ان استقالة الحريري لم تكن خطوة عشوائية بمقدار ما انّه كان على لبنان، عبر رئيس مجلس الوزراء، ان يختار في مرحلة هل هو تابع لإيران ام لا وان يؤكد رفضه هذا الخيار بالافعال وليس بمجرّد الكلام.

نقلا عن صحيفة الرأى الكويتية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى