اخترنا لكدوشة فنية

حنان أبو الضياء تكتب: توفيق الدقن «العبقري».. المظلوم حيا وميتا 

بعدما فرغت من الكتابة.. مضطر ومجبر على طرح أكثر الأسئلة حيرة وارباكا، هل نال توفيق الدقن ما يستحقه من شهرة ونجومية وتحليق؟ فيها رصد للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمصر في الفترة من الثلاثينات إلى الثمانينات، وما حدث فيها من متغيرات كثيرة سنلاحظها بوضوح في الأعمال المسرحية والدرامية «إذاعية وتليفزيونية» وفي السينما التي قدمت رصدا شديد الدقة.. وشارك في كل ذلك الراحل الكبير توفيق الدقن بعبقرية فذة. 

تلك الأسئلة هي المؤشر الذي يتجه بك إلى عالم المبدع العظيم توفيق الدقن من خلال إبداع الزميل رشدي الدقن في كتابه توفيق الدقن «العبقري».. المظلوم حيا وميتا الصادر عن دار ريشة للنشر والتوزيع. 

فيتكلم عن النشأة وسر 3 سنوات لم يعشها توفيق الدقن.. لأنه عاش باسم شقيقه الأكبر الذي رحل عن الدنيا، وأصر الأب أمين محمد أحمد الشيخ الدقن من رجال الأزهر.. والوالدة «زكية الدقن» ألا يستخرجا شهادة ميلاد جديدة.. وأن يظل المولود الجديد بنفس الاسم.. اتهامه بالشروع في القتل وعمره 12 سنة.  

ونتعرف معه كيف غيرت الصدفة حياة توفيق الدقن؟.. وأخذته من الرياضة إلى الفن؟. وحكاية أول ظهور له على خشبة مسرح سينما «بالاس» بالمنيا.. صداقته بصلاح سرحان وعبد المنعم مدبولي وسعد أردش وتقديم أوراقه لمعهد التمثيل، واصطدامه بنجيب الريحاني في أول يوم اختبارات.. وكيف التحق بالمعهد ببرقية من الأستاذ زكي طليمات.  

يرصد الكاتب النجاح الكبير لمسلسل سمارة والذي قام ببطولته.. ونكشف لأول مرة أنه من قدم شخصية إبراهيم الطاير في الإذاعة.. وأخذها عادل إمام في المسلسل الشهير فيما بعد.  

ويتكلم عن صدمة هجوم الشيخ عبد الحميد كشك في إحدى خطبه قائلا: اللغة السيئة التي تجتاح الشارع اليوم واللي تودي في داهية.. اللغة بتاعة توفيق الدقن اللي بوظت العيال وفسدت الأخلاق.  

وحكايات تأسيس المسرح الحر مع عبد المنعم مدبولي وسعد أردش وكتابة شيكات لإنتاج مسرحية، والتي كاد أن يدخل السجن بسببها وفي آخر ليلة عرض حدثت المفاجأة. 

وفي مذكراته يقول «وقتها كان سعد أردش بيقولي مش عاوزين نمضي.. هنتحبس.. وكنت أقوله إحنا مش معانا فلوس نبقى نتحبس عادي.. دي مغامرة ولازم نأجر المسرح، وقعدنا أسبوع نجيب إيرادات لا تتجاوز جنيه ونصف فقط.. الرواية كانت ناجحة بس احنا أسماءنا هي اللي مش بتجيب فلوس». 

ويؤكد المؤلف من خلال الكتاب أنه عند استعراض تاريخ المسرح المصري وتاريخ نجومه، سيكون «توفيق الدقن» في المقدمة نجم كبير.. له حضور طاغ وزعامة لا تخطئها عين.. زعامة جاءته طيعة لم يسعى لها ولم يطلبها.. موهبته الكبيرة وضعته في المكانة التي يستحقها في المسرح.. موهبة وضعته في مقدمة الجيل، ومنحته محبة واعترافا بقدراته من جانب العاملين في هذا الميدان من مؤلفين ومترجمين ومخرجين وممثلين ومسئولين في وزارة الثقافة وهيئة المسرح والدولة المصرية التي كرمته ومنحته عدة أوسمة. 

ويتحدث عن المسرحيات التي أثارت أزمات ومشاكل مثل 7 سواقي وعفاريت مصر الجديدة و«الناس اللي تحت» و ‬مسرحية «‬سيما‭ ‬أونطة» ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬الراحل‭ ‬نعمان‭ ‬عاشور‭ ‬في 1958 ‬‮‬ومنعت‭ ‬من‭ ‬العرض‭ ‬بسبب‭ ‬ظهور‭ ‬الوسط‭ ‬الفني‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬محببة.‭

‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ويتكلم عن علاقته بسمحية أيوب والتهديد بالاستقالة من المسرح القومي والانضمام إلى جماعة الرفض الوطنية الممتدة من المحيط للخليج لمعاهدة كامب ديفيد وسجل اسمه في قائمة الشرف الرافضة.. ودفعه الثمن غاليا فيما بعد لكنه أبدا لم يفكر في العواقب. 

لم يستطع المخرجون رغم محاولاتهم المستميتة حبس الموهبة الطاغية لتوفيق الدقن في الأدوار النمطية كشرير طوال الوقت.. ونجح في صناعة نجومية كبيرة في السينما كما صنعها في المسرح.. وفيما حاول المنتجون حبسه في هذا الإطار، ربما لتمتعه بملامح حادة غليظة وعينين تتسمان بالذكاء والشقاوة والعفرتة وكذلك بصوت خشن أجش معبر.. كان هو يقرر أن يقدم الشر بشكل مختلف جدا. 12 من أفلامه في قائمة أفضل 100 فيلم والترشح للأوسكار. 

استطاع توفيق الدقن ـن يفرض موهبته وشخصيته على الأدوار التي تصدى لها.. نجح في ترويج وترويض العديد من الأدوار الهامشية والتي كانت تحتاج لممثل محترف قادر على تقديمها بشكل يثير الدهشة والتوهج، وربما هذا ما كان يدفع كبار المخرجين للجوء إليه ليفك لهم طلاسم شخصيات بدت على الورق باهتة، مثل دوره في ضربة شمس.. وشخصية «عبد الشكور» في الفتوة، و«شيكو» في «بورسعيد»، و«حاكم عكا» في «الناصر صلاح الدين» 1963، و«بدران» في «أدهم الشرقاوي» 1964، و«الباز أفندي» في «ابن حميدو» 1957، والشيخ شعبان المجذوب الذي يتاجر بالدين في فيلم الأرض 1970، الحاج عوضين في «خرج ولم يعد» 1984، فهمي القليوبي في «المذنبون» 1976، أبو دومة في «مولد يا دنيا» 1976، طباع الديك في «الشيطان يعظ» 1981، موسى في «سعد اليتيم» 1988، وكلها أعمال متميزة لم تقاس فيها أدواره بمساحة الدور أو حجمه، فلم يكن يشغل باله هذه الأمور، لأنه يصنع منها ومضات تزين تاريخه السينمائي. 

مثلما استطاع توفيق الدقن أن يفرض موهبته وشخصيته على كل الأدوار التي قام بها في الإذاعة والمسرح والسينما.. استطاع أيضا أن يشكل رقما مهما في الدراما التليفزيونية وكان فارسا من فرسانها الكبار المؤسسين.. فمن أول يوم للتليفزيون المصري كان حاضرا فارضا هيبته كممثل ثقيل لم ينجح عمل بدونه.. في التليفزيون قدم أعمالا ساطعة وأدوارا عظيمة ووجد فيه ما يشفى غليله ويسمح له بإبراز مواهبه الفذة بعيدا عن محاولات سجنه في نمطية شخصية الشرير. 

بعد انطلاق البث التلفزيوني المصري عام 1960، بدأ التفكير في الأعمال الدرامية.. وتم إنتاج أول مسلسل تلفزيوني وهو مسلسل «هارب من الأيام» والذي بدأ بثه في 23 يوليو عام 1962، وكان من تأليف فيصل ندا مأخوذاً من قصة الأديب ثروت أباظة، وبطولة توفيق الدقن، وعبد الله غث وحسين رياض، ومديحة سالم، وأخرجه نور الدمرداش. 

من الجوانب الخفية في حياة توفيق الدقن مسألة الانتماء السياسي.. ورغم أن هذا الجزء لم يكن مطروحا بقوة إلا أن مواقف محددة للراحل الكبير تشير إلى فطرته السليمة ووطنيته في اختيار مواقفه وانحيازه الدائم لكل ما هو مصري وهي المواقف التي لم يزايد بها في أي وقت من الأوقات. 

لا يعلم الكثيرين أن جماعة الإخوان المسلمين حاولت بقوة ضم الفنان الكبير لها.. وقتها كانت الخطة الإخوانية – والتي استمرت حتى الآن – ضم النجوم والمشاهير للجماعة لضمان المزيد من التأثير واقناع أعداد كبيرة بالانضمام للجماعة. 

أما الكذبة الكبرى والتي نفتها العائلة مرارا وتكرارا فتخفت لفترة ثم تعود للظهور وبات الأكثر رواجا.. هي أن والدته توفت وهي غاضبة عليه وتظن أنه شرير ضل طريقه ويعيش على القتل والسرقة والنهب. 

كذبة أخرى منتشرة جدا عن توفيق الدقن وهي أنه «يسكر.. ويرقص بالملابس الداخلية» هذه الكذبة منتشرة جدا على السوشيال ميديا.. ومرفق بها صورة قديمة يرتدى فيها «شورت» رياضي.. كذبة محبوكة جدا عن سهرة في ملهى «الأريزونا» بشارع الهرم وتم تحديده بالاسم للمزيد من التضليل، وبعد الشرب والفرفشة، خلع توفيق الدقن البنطلون ووقف يرقص بالملابس الداخلية.. والصورة تؤكد الرواية الكاذبة الشريرة. 

كذبة أخرى تمت صياغتها بحرفية شديدة ولدرجة استخدام بعض الكلمات التي كان يستخدمها توفيق الدقن في حياته الحقيقية ككلمة «زى البرلنت».. وتم إضافة حوار كاذب بين توفيق الدقن ومصطفى العقاد مخرج فيلم الرسالة. 

ويؤكد الكتاب أنه لن تجد شخص متصالح مع نفسه ويعترف بأخطائه وضميره حي مثلما ستجد توفيق الدقن.. الرجل كان واضح وصريح لم ينكر أنه يشرب الخمر.. ولم ينكر أنها أثرت عليه بقوة.. ولم يحاول تجميل صورته واعترف أنها كانت سببا في ابتعاد بعض الناس عنه.. وأنت تبحث في تاريخ توفيق الدقن ستراه مثلما اعترف بأنه يشرب، اعترف بأنه توقف وندم.. وأنه تاب توبة نصوحة وقرر ألا يعود إليها.. وقد كان وبالفعل توقف. 

كان لديه شجاعة كبيرة مع النفس، حيث قال في أحد الحوارات مع جريدة الجمهورية: «أنا بشرب خمر كثير عشان أرجع لنفسي مرة تانية». 

توفيق الدقن في مذكراته يكشف عن الشخصيات التي أخذ منها إيفهاته..«أحلى من الشرف مفيش» دي حكايتها حكاية.. فقد كان «عبدة دنس» شخصية حقيقة بكل أبعادها وكنت التقى به على مقهى في عماد الدين وكان عامل فتوة في فيلم «الشيطان يعظ» وكيف ارتجل أثناء استعداده لتصوير مشهد «أومال مين اللي هينضرب». 

إيفيه «البلنس في الإكسلانس» من أشهر الجمل التي قالها خلال فيلم «الدرب الأحمر» الذي تم تقديمه عام 1980، كما لعب دور السكير في فيلم «بحبك يا حسن» الذي أنتج في الخمسينيات، وكان من أشهر الجمل التي قالها خلال أحداث الفيلم إيفيه «يا آه يا آه» الذي انتشر بدرجة كبير وقتها. 

ومن طقوسه في صناعة أعماله و«إفيهاته» الشهيرة أنه: «كان يدخل في غرفته ويعيش الشخصية تمامًا، ويحضر لكل تفاصيلها، ويلتزم بالنص ويخترع  الإفيهات  ثم يستأذن المؤلف والمخرج في إضافتها. 

نجاح اللزمات أو الإفيهات في كل أعمال توفيق الدقن والتي كان يحرص عليها ويفكر فيها فتخرج مبهجة بهجة موهبته الكبيرة.. كانت في بعض الأحيان سر غضبه.. وأكثر شخصية كرهها كانت «همبكة»، فقد كان لا يحب هذه الشخصية، وخلال وجوده في أحد العروض المسرحية ناداه أحد الحاضرين بهذا الاسم، وهو ما جعله يبكي، لأنه لم يكن يحب هذه الشخصية خاصة أنه لا يشبهها في أي صفة. 

و‎في مستشفى المقاولون العرب في 27 نوفمبر 1988، اجتمعت الأسرة حول سرير الفنان الكبير توفيق الدقن والذي كان يعاني من كثرة الأمراض وكثرة كرهه للأطباء.. رحل في هدوء بعد أن ألقى آخر قنابله.. «لم أترك لكم شيء تخجلون منه.. فهم سيسعون للبحث في تاريخي بعد وفاتي، ولكنهم لن يجدوا شيئا مخزيا».  

للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا 

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى