ما بين الحقيقة والخيال نسج مسلسل (القاهرة كابول) كشهادة درامية؛ على ما حدث في العالم خلال السنين الماضية؛ وظهور التيار الإسلامي السياسي المتطرف؛ المدعوم من الغرب. وفى الواقع أن الصراع في البناء الدرامي لمسلسل القاهرة كابول يرتكز على وجود قوتين رئيسيتين متضادتين، ينتج عن تقابلهما أو التحامهما دفع الحدث إلى الأمام من موقف إلى آخر؛ في حركة مستمرة تقود البناء الدرامي نحو ذروة رئيسية للأحداث، وهذا ما نراه متمثلا في الشخصيات الرئيسية وحياتهم الشخصية وتعاملهم مع الواقع الخارجي في شخصية رمزي؛ وعادل؛ وطارق كساب. ويوجد أيضا صراع الإنسان ضد نفسه، و القوة الداخلية سواء بتناوله شيئا يمس حياته، أحاسيسه، أو معتقداته؛ وهى النماذج الثانوية الموجدة بالمسلسل.
«القاهرة كابول» من الأعمال الفنية التي حظت باستقبال نقدي وجماهيري جيد مع الحلقات الأولى منه؛ إلى حد تقبل المشاهدين حلقة كاملة تعتمد في معظمها على مشهد واحد؛ يضم الأصدقاء الأربعة؛ وحوار طويل يتخلله الفلاش باك؛ كوسيلة من المخرج لرسم جذور الشخصيات الأربعة؛ وإعطاء المشاهد خلفية إنسانية لكل واحد فيهم؛ كانت بمثابة المقدمة التي تعطى المعلومات الأساسية، ليدراك المتفرج ما سيحدث بعد ذلك من الصراعات الداخلية المعقدة للشخصيات فيما بينها؛ وتعميقا للصراعات الثانوية؛ ذات الصلة بتلك الشخصيات كلٌّ على حِدَة.
ومع مرور الوقت بدأ المسلسل في التحول إلى مقال سياسي؛ مما أفقد الدراما أهم عناصر التماسك؛ وتحول إلى ديالوجات منفصلة كل واحد فيها يدور في إطار مفردات الحدوتة الخاصة به؛ لا يربط بينهما سوى سرد الخطوط الرئيسية للأصدقاء الثلاثة؛ التي بدأنا بها الحلقات. وأخذت الحكايات الجانبية والثانوية الأقل أهمية جزء كبير من الصراع الأساسي للعمل؛ كالمشاهد التى نعيشها يوميا فى القهوة البلدى بالسيدة زينب؛ التى ليس بها ضرورة درامية؛ سوى الحشو والحكايات التى لن يقل العمل من أهميته شيئا إذا لم تتواجد.
نقطة التحول فى حياة الأبطال منذ البداية ليس بها أى علامات المد والجزر للشخصيات الدرامية؛ فهى ثابتة فى خط مستقيم مرسوم بالمسطرة؛ للشخصيات الثلاثة الذين ستدور حولهم الأحداث؛ ضابط الشرطة عادل بيه؛ والإرهابى رامز؛ والإعلامى طارق كساب؛ كل شخصية فيهم لم تختلف كثيرا عن منبتها؛ فهذا ضابط الشرطة الذى علم من البداية قيمة البدلة التى ارتداها ؛ فقدم نموذج رجل الأمنى الوطنى بلا أدنى تجاوزات؛ والإعلامى الأفاق المستغل، والذى يعانى من ضحالة منبته وإحساسه الدائم به؛ والإرهاب الذى رباه متطرف كان يقطن بالعمارة التى يسكن بها ؛وغذا فيه رغبته بالتميز والتفرد.
واستمر السيناريست عبدالرحيم كمال فى كشف النقاب عن الصراع بين أبطال المسلسل محاولا خلق نوعا من التشويق بين الحين والآخر؛ من خلال الحكايات الجانبية؛ وللأسف أنه من الملاحظ أن هناك فرقا شاسعا فى الإمساك بتفاصيل القضية، التى يطرحها عبدالرحيم بين عمل من تأليفه، حتى وان كان يحتوى على شخصيات حقيقية يمكن الإشارة إليها؛ وبين عمل مستوحى من عمل أدبى كمعظم أعماله الناجحة «الخواجة عبدالقادر» المستوحاة من رواية الخميائى لبابلو كويلو وفساد الأمكنة لصبرى موسى؛ ومسلسل دهشة من مسرحية «الملك لير»؛ ومسلسل «ونوس» عن «فاوست» لجوته؛ وأخيرا حالة التشابه التى تبدو واضحة فى الخط الدرامى الاساسى بين مسلسل نجيب باهى زركش المأخوذ عن رواية للكاتب الإيطالى إدوارد فيليبو، مسرحية (السيد بونتيلا وتابعه ماتي)، للمؤلف الألماني برتولد بريخت. فللأسف أن مسلسل القاهرة كابول يبدو وكأنه مجموعة شخصيات تعيش فى جزر مختلفة ؛تلتقى بين الحين والآخر من خلال عناصر درامية لا تسمن ولا تغنى من جوع.
ومع ذلك يجب الإشارة إلى التوظيف الجيد لثلاثة شخصيات حقيقية ؛ يكاد المشاهد يشير إليها بالبنان ؛حيث قام عبد الرحيم كمال بتوظيفها وخلق منها شخصياته الدرامية؛ وخاصة رمزى ؛وطارق كساب؛ الشيخ غريب زيدان؛ حيث وجد في الشخصيات الحقيقية ضالته لتحديد هوية الشخصية الدرامية، لذلك استخدم أحيانا أسلوب استبطان الذات واللجوء لاستخدام عنصر الحوار الداخلي (المونولوج)؛ بغاية التعبير عن الإحساس الداخلي للشخصية عبر رؤية ذاتية، وخاصةً فيما يتعلق بأظهار التوازن المطلوب بين فكر الشخصية وأحاسيسها، وبين مواقفها المعبرة وسلوكها اليومي المرتبط بتصاعد الأحداث. فنرى شخصية الشيخ غريب زيدان الذى كان سببا فى اعتناق رمزى الفكر التكفير، أقرب إلى شخصية سيد قطب؛ الأب الشرعي والملهم الروحي لتنظيمات الإسلام السياسي التي اعتمدت على تأويلاته الفقهية للمشاركة في اللعبة السياسية واستغلال هامش الديمقراطية من أجل الركوب عليها، مرحليا، إلى حين توافر الشروط الذاتية والموضوعية للانقضاض على الحكم، وذلك من خلال تفسير ضيق وتطويع سياسي لقصة سيدنا يوسف وإسقاطها على الوضع السياسي الحالي من خلال تبرير «مشروعية السعي إلى السلطة في ظل مجتمع جاهلي ونظام كافر»؛ وبدا هذا واضحا فى (المونولوج) الذى ردده رمزى لنفسه واصفا ذاته بالصورة الأقرب لسيدنا يوسف ؛ والذى جاء فى الحلقة 26 من المسلسل. إلى جانب أن شخصية رمزى التى أداها طارق لطفى أخذت ايضا من سيد قطب؛ أنه مثله كان فى بداية حياته شاعرا وأديبا وتأثر إلى حد كبير بأستاذه عباس محمود العقاد، غير أن تواضعه في الميدانين الأدبي والنقدي دفعه إلى الاتجاه إلى الكتابات الإسلامية.
أما شخصية رمزى أمير المؤمنين كما يزعم فهى ظلال شخصية ابو بكر البغدادى وخاصة فى علاقته بالأمريكان ؛ وكما اعتبرت المخابرات الأمريكية البغدادى صيدا ثمينا بسبب شخصيته القيادية ومهارته فى جذب الأتباع وقدرت له تعاونه معها فى الكشف عن أحد التنظيمات المسلحة التى قتلت عددا كبيرا من القوات الأمريكية؛ فألقت عليه القبض وأودعته سجن «بوكا» فى عمق صحراء البصرة ليكون نواة للتنظيم الجديد الحليف لها الذى تعده واشنطن لتضرب به التنظيم الأخطر على قواتها وهو القاعدة فى بلاد الرافدين؛ وهو ما ظهر فى احدث المسلسل على نفس السياق؛ وان أختلف أسلوب القبض عليه ؛ فشهدت أحداث مسلسل القاهرة كابول الحلقة 20 وصول الشيخ رمزي إلى أحد المعسكرات الأمريكية، والذين لجئوا إلى حيلة للسيطرة عليه، من خلال إخباره أنه سيتم قتله، وبالفعل يتم إدخاله غرفة مغلقة معصوب العينين وبعد تحريك الأسلحة أصابته حالة من الهلع وبدء يردد الشهادة، ليأتي صوت أحد القيادات الأمريكية ويخبره أنه هكذا مدين بحياته، وأن الأمر يتطلب صفقة جديدة. وبالفعل تشهد الحلقة عودة الشيخ رمزي بعد أن عقد صفقة مع الأمريكان؛ لذلك نجد أن مكياج شخصية رمزي أقرب فى الشكل إلى البغدادى.
أما شخصية طارق كساب فهى انعكاس فى المرآة لشخصية يسرى فودة الذى أجرى حوارًا مع زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، وهو الإعلامي الوحيد الذي قام بذلك وفى المسلسل أجرى حوارا مع زعيم التنظيم الإرهابى فى كابول ؛ بل أن المسلسل يشير إلى خطوبة طارق كساب لأحدى الإعلاميات العرب وهو ما حدث فى الواقع مع يسري فودة و خطبته للإعلامية السورية ألمى عنتابلي؛ التى انتقلت من قناة العربية إلى قناة سكاي نيوز عربية.
أشار المسلسل إلى الأحداث المأساوية التى مرت بها مصر من التفجيرات التى لحقت بالسياحة وتفجير كنيسة القديسين فى الإسكندرية، ومع الاحداث المثيرة والارهاب ؛أعطى عبد الرحيم بصيص أمل، من خلال شخصية عم حسن أستاذ التاريخ الفيلسوف وهى شخصية اقرب إلى الشخصيات التى كان يلجأ إليها أسامة أنور عكاشة فى مسلسلاته ؛لتكون قادرة على أن تعبر عن الجانب الإيجابى للحياة، لتخرج المشاهد من هذه البوتقة المليئة بالصراع وتذهب باتجاه مغاير ؛ وخاصة أن تلك الشخصية قيادية تقرر حركتها ومصيرها بنفسها وبدون إملاءات خارجية.
ويبقى فى النهاية أن أجمل ما فى مسلسل (القاهرة كابول )من تأليف عبدالرحيم كمال، وإخراج حسام علي هم مجموعة الأبطال ذو الأداء المتميز طارق لطفي، وخالد الصاوي، وفتحي عبدالوهاب، ونبيل الحلفاوي، وحنان مطاوع.
للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية