اخترنا لكنون والقلم

الخليج على صفيح ساخن!!

هناك أشياء ظاهرة يمكن للقارئ في المشهد السياسي تلمسها وتقدير أبعادها، وهناك أمور وتفاصيل أخرى غائبة، لا يملك المتابع ان يطلع عليها فهي محروسة بأستار من الكتمان. وهنا عليه ان يستعين بالتاريخ وقراءة مراكز القوى وطبيعة الصراع وأن يمضي إلى عوالم الاسئلة حتى لو لم تكن هناك ضفاف كافية لإجاباتها.

وحتى يكون التناول موضوعيا وكاشفا علينا اليوم ان نطرح الاسئلة حتى نصل إلى مستوى تقويم تطورات الأحداث خلال الأيام الماضية.. والتي جعلت من منطقة الخليج العربي تمر بأخطر أزماتها، وقد تترتب عليها اضرار كبرى تُنهك ما بقي من نسيج عربي يكاد يتهاوى، وسط حالة صراع تخفي أكثر مما تظهر وتضمر أكثر بكثير مما تفصح.

كتبت هنا قبل أكثر من عشر سنوات عن المسألة القطرية، تحت إلحاح الدور القطري الجديد.. في محاولة لفهم أبعاد هذا الدور.. ومنذ ذلك الوقت والسؤال يعاود ذاته: هل قطر لديها طموحات أكبر من مقومات الدولة الصغيرة المرتبطة عضويا بجيرانها.. هل تتحرك أجندتها وفق مصالح محددة بالدولة والمجتمع القطري.. أما ان المسألة أبعد من هذا، وأن هناك أجندة دولية (صراع دولي) اختار قطر في ظل قيادتها الجديدة بعد إزاحة الأمير الجد خليفة وتدفق أموال الغاز الضخمة، وظهور قيادة جديدة بدأت في تنفيذ مشروع تغيير تحت بيادق صراع بدت ملامحه تترى بقوة منذ منتصف العقد الأخير من القرن الماضي.

الصراع الدولي لم يعد مكشوفاً وسهل القراءة.. إنه يخفي الكثير، وتعمل بالوكالة له أطراف متعددة، تمارس الضرب تحت الحزام بخفة وسرعة وعلى طريقة تحريك أدوات متقدمة في الإعلام والسياسة والدعم والتمويل..

اختارت حكومة قطر الأب ان تجمع نقيضين ( قناة الجزيرة وقاعدة العديد). وكلاهما تعني الكثير. حملت الجزيرة طاقم البي بي سي واحترافيته.. إلا أنه من الصعب ألا تكتشف عندما تراقبها بدقة طيلة عملها خلال السنوات الماضية، حيث تعمل بالضد من المشروع الاميركي، وبالتالي تستهدف أيضا علاقات القوة الأكبر في العالم بحلفائها في المنطقة. وقس على ذلك الدور الذي مارسته خلال ما عرف بأحداث الربيع العربي.. وكان السؤال حينها هل كان دعمها الاسلام السياسي عن قناعة من قطر واختيار.. أم انه جسر للعبور إلى تحقيق أهداف أبعد واعمق من قضية حقوق ومظالم وانتهاكات؟ أما لغز داعش والقاعدة فسيظل محوطا بالكثير من الغموض والالتباس.. إلا إنه من الواضح ان جماعات التطرف والارهاب لم تكن لتعيش وتتمدد لولا دعم مالي واستخباراتي ولوجستي الوصول إلى اطرافه تبدو عملية مستحيلة سوى لأجهزة كبيرة مماثلة!! وتلك لا تفصح سوى عن عناوين دون تفاصيل.. وربما كانت هذه التعمية مقصودة لذاتها!!

قناة الجزيرة، استمالت الشعوب العربية عبر تبينها لقضايا شعبية وحقوقية.. لكن هل كان هذا بلا أجندة خاصة وانما لوجه الله ولخير الانسان؟.. أم أن ثمة مشروعاً آخر، ليس مشروعها الاعلامي العابر للحدود سوى جزء منه، حيث تلعب فيه قطر دورا ما، لا هدف له سوى إضعاف من تراه خصما او يقع ضمن دائرة تحالف الخصوم، وقد تصل لأهداف أبعد بما فيها التفكيك والتفتيت.. ضمن مشروع ها نحن نرى نتائجه تتفجر في المنطقة.

كيف تجمع الأضداد في لعبة السياسة؟.. مهمة عسيرة اختارت قطر ان تكون عرابها في المنطقة: ترمز لها الجزيرة الموجهة بالضد من المشروع الاميركي إلى جوار قاعدة العديد الاميركية.. السؤال الاهم نيابة عمن؟ من هو الشريك الأكبر في صياغة الدور القطري الجديد؟ وهل يجوز ان نتجاهل صانع الدولة القُطرية في منطقة المشرق العربي -بريطانيا العظمى- ولماذا ظل يغلب التصور الكاسح انه لم يعد في المشهد سوى الولايات المتحدة الاميركية التي تمسك بزمام الامور باعتبار قوتها المادية والعسكرية الظاهرة؟ ومتى كان الصراع بين القوى الكبرى التي تدرك طبيعة هذا الصراع مكشوفا وظاهرا.. السؤال بالتحديد: ما هو الدور الانجليزي في الصراع اليوم في منطقة الخليج والشرق الاوسط؟

وهل يمكن ان ننتهي الى ان ثمة صراعاً خفياً بين الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها من جهة وبين المشروع الانجليزي المستميت بلا صوت للابقاء على النفوذ والمصالح والدور.. ولكنه اليوم دور خفي يحجبه ضجيج الجزيرة وقنواتها.. إذ قدمت نفسها نصيرا للشعوب ولقضايا الأمة ولحقوق المظلومين.. وهل فعلت هذا بوحي الذات القطرية/ الدولة الخليجية الصغيرة/ وهي تدرك حدودها وقدراتها وطبيعة تكوينها.. أم ان المسألة لا تعدو أن تكون تكتيكا في حلقات صراع تستخدم قطر في اثخان الخصم في حلبة الصراع الأكبر.. وماذا يمكن ان يتوقع مشارك صغير في حلقات الصراع سوى ان تناله اللكمات التي قد ينجو من آثارها بعد استيعاب الضربة او قد تسقطه خارج الحلبة!!

من المنظور الأخلاقي الصرف تبدو السياسة القطرية في التعامل مع قضايا الانسان العربي نبيلة، ولكن من الناحية السياسية والاستراتيجية وأبعاد الصراع الدولي في المنطقة، لا يمكن أن تمر مسألة كتلك دون أن تكون ثمة شراكة ما.. تجعل النبل وسيلة للنيل.. وقناة فضائية واسعة الانتشار تكسب الشارع العربي، ولكن ايضا تعمل على تقويض مشروع آخر بطريقة او بأخرى، وقس على ذلك ما يحدث على مستويات أخرى.. مما يجعل حجم الوعي السياسي لدى الشارع العربي ممزوجا بشهية الانتقام من المشروع الاميركي وحلفائه بالمنطقة!! أليس هذا ما حدث ويحدث اليوم؟

الصراع الدولي لم يعد مكشوفا وسهل القراءة.. إنه يخفي الكثير، وتعمل بالوكالة له أطراف متعددة، تمارس الضرب تحت الحزام بخفة وسرعة وعلى طريقة تحريك أدوات متقدمة في الاعلام والسياسة والدعم والتمويل.. حتى ليظن الانسان العربي انه لا يوجد في عالمه المضطرب سوى لونين لا ثالث لهما: الاسود والابيض. وعليه ان يرى الاسود ويشير إليه وهذا يكفي ليكون الآخر في الجانب الابيض النقي الجميل.

يبدو ان الادارة الاميركية الجديدة ضجت من هذا التناقض القطري، وهي تدرك ابعاد هذا الدور وتراقبه لسنوات.. إلا انها قررت في النهاية وضع حد له. هل تنجح أم سيكون لدى الطرف الدولي الاخر العريق في المنطقة إعلاميا واستخباراتيا.. ومهندس الدولة العربية القُطرية منذ الحرب العالمية الاولى.. المزيد من الاوراق لارباك حاكم البيت الابيض الجديد، القادم من خارج مؤسسات الدولة العميقة، حتى لو اصطدم باسلوب الخارجية الاميركية.. وهو ليس اختلافاً في رؤية الادارة الاميركية بين البيت الابيض والخارجية الامريكية حيال قطر.. قدر ما هو اختلاف في اسلوب التعاطي مع المسألة القطرية.. إذ تغلفه الخارجية بالدبلوماسية ويهتك سيد البيت الابيض سره على الملأ.

نقلا عن صحيفة الرياض

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى