سعد الحريري يعلن استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية في (مانيفستو) عروبي أولاً ولبناني ثانياً. قرأ بصوت كاريزمي بياناً هو خارطة سياسية وأمنية فيها خطوط المعاش السياسي الإقليمي والقادم الشامل.
البيان، الاستقالة، تزامن مع التحرك العسكري في سوريا والعراق الذي دفع في القطرين بقايا «داعش» إلى حفرة الزوال. التوقيت له عناوين فوق الأرض وتحتها.
حزب الله هو أحد أضلاع مثلث العنف الآيديولوجي العقدي في المنطقة. القضاء على ضلعي المثلث في كل من سوريا والعراق لا يزيله، حزب الله بعضلاته وحواسه الإيرانية سيكون الإناء الواسع الذي تُدلق فيه السوائل السياسية والمسلحة والمالية لـ«داعش».
«داعش» سيتحول إلى سواعد وبنادق ومتفجرات للإيجار. لن تكون الهوية الطائفية سداً بين التنظيم المهزوم، والآلة الإيرانية التي تعتمد تكتيك (خلخلة الأنظمة العربية) لفتح ثغرات تنفذ منها إلى أجسادها. سبق لإيران أن تحالفت مع تنظيم القاعدة ضد أطراف عربية ودولية، وزعماء إيران لم يخفوا نياتهم نحو كل البلدان العربية بغض النظر عن وجود أو عدم وجود شيعة بها. لقد قالوا علناً إن كل مجريات الأمور في جميع أنحاء العالم العربي محكومة بالقرار الإيراني، بما فيه شمال أفريقيا الذي لا وجود للشيعة فيه.
بيان الحريري جاء في خضم تطورات إقليمية ودولية متسارعة ومركبة. روسيا أعلن رئيسها بوتين عن – استدعاء – الفرقاء السوريين إلى روسيا لابتلاع الوصفة الروسية للحل في سوريا. الولايات المتحدة تتحرك بقوة على الأرض السورية عبر قوات سوريا الديمقراطية الكردية. والحديث عن تحويل مناطق خفض التوتر في سوريا إلى أقاليم تشكل في المستقبل خارطة الدولة الاتحادية السورية مؤشرات لحلقة ما بعد القضاء على «داعش» في سوريا والعراق.
سيكون لبنان غرفة العمليات القادمة لإدارة الصراع المقبل في المنطقة. إيران لا تتوقف عن فتح أبواب المعارك، ترى أنها حققت انتصاراً حاسماً في كل من سوريا والعراق، والمعركة القادمة في الخليج العربي عبر اليمن. وتوسيع دوائر الثغرات في كل الأنظمة العربية عبر تنظيم داعش المنكسر المندفع بجنون الانهزام والانتقام. ولا شك في أن الولايات المتحدة وأوروبا تقرأ خرائط الاندفاع الإيراني. تصعيد العقوبات الأميركية على كل من إيران وحزب الله هو جزء من حزمة المواجهة معهما، ولبنان سيكون في خضم أتون المواجهة المقبلة. حزب الله سيحشد المقاتلين الذين أكملوا مهمتهم في سوريا للتحرك في داخل لبنان وخارجه، مستقوياً بما يعتبره انتصاراً لمشروعه الإيراني الرسولي بإنقاذ النظام السوري، وضخ أنفاس جديدة في محور «الممانعة والمقاومة».
جزء جديد من المشهد الثاني في مسار الأحداث في المنطقة يتحرك على الأرض. القوة العسكرية الإيرانية التي التهمت الجزء الأكبر من الثروة الإيرانية، والحرس الثوري الذي هو دولة فوق الدولة، يستمد قوته السياسية والمالية والأمنية من آلة الحرب، لن يسمح بتوقف تلك الآلة. سيصنع هذا الحرص أحزاب الله أخرى، سورية، عراقية، يمنية، إلى جانب اللبناني، الهدف كل المساحات العربية.
سعد الحريري الذي شكل حكومته الثانية في السنة الماضية بعد تعيين ميشال عون رئيساً لجمهورية لبنان بتوافق مع حزب الله، تسلح بقوة المحاولة لإنقاذ ما يستطيع إنقاذه من لبنان الذي دفع الكثير في غياب رئيس للبلاد وتفاقم الأزمات السياسية والمالية. شارك مع من توجه لهم تهمة قتل والده، وعمل على تكريس سياسة النأي بلبنان عن معركة الشعب السوري مع النظام. أراد أن يكون حلقة الوصل الفاعلة بين العرب ولبنان.
التعايش السياسي مع حزب الله والعمل معه في حكومة وطنية أقرب إلى ركوب طائرة قاذفة، يقودها مقاتل يتوجه إلى قصف شارعك بل منزلك. لا شك أن الحريري حاول أن يروّض بصره وسمعه بل عقله، للتعامل مع كيان يعلن أن ولاءه العابر للحدود لا يسكن بيروت، إنما في طهران وقُم.
استقالة سعد الحريري المفاجئة بتوقيتها ومضمون بيانها، تحمل في داخلها أكثر من صفارة إنذار، فيها من الصوت العربي بقدر اللبناني. منازلة سياسية مع إيران عبر حزب الله، عرضاً ليس للنيات الإيرانية فحسب، بل قراءة للفعل الإيراني على الأرض. مخطط تصفيته جسدياً يعني استمرار ما كان مع الأب رفيق الحريري, واستعمال إيران للبنان كمخلب متفجر يطال مربعات ودوائر محددة في المنطقة العربية. السؤال هو: هل الوضع السياسي والأمني العربي مؤهل لبناء موقف به الحد الأدنى من إمكانيات إيقاف الاندفاع الإيراني الواسع في المنطقة العربية؟ استقالة الحريري لن يكون لها تأثير عربي ما لم تَقُد إلى مبادرات سياسية عاملة تحد من ذلك الاندفاع، أما على مستوى الداخل اللبناني، فإنها بلا شك تهز الواقع السياسي الآسن بل المتجمد، الذي لا حركة فيه إلا ليد واحدة، يد حزب الله. تعيين بيروت سفيراً لها في دمشق رغم توجهات الحريري الرافضة لذلك، مؤشر إلى من يمتلك القرار الفعلي في بيروت، أي حزب الله، الذي يقاتل بقواته مع النظام السوري. عندما يقول رأس النظام الإيراني إننا نحكم ونتحكم في أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، فإن تعيين سفير للبنان لدى سوريا يعني (الماصدق) للقول الإيراني.
هل سيشهد لبنان في المرحلة المقبلة تطورات سياسية تعكس مؤشرات جديدة لمسار المشهد القادم في داخله والساحة الإقليمية؟ الانتخابات البرلمانية المؤجلة والتي يجري الإعداد لها منذ زمن في أي مهب ستكون؟ الحكومة القادمة من أي رحم ستولد؟ التفاهم أم التصادم؟ ردود الفعل الدولية في خضم التفاعلات السائلة روسياً وأميركياً وتركياً وإيرانياً. لبنان كما سبق القول هي غرفة عمليات المنطقة. الحريري، أطلق النار على النار، وهل يفل الحديد إلا الحديد؟. سيتداعى أكثر من طرف لملاحقة ما يجري في كل لبنان. سيبدأ الإنزال السياسي أمام الخطوط وخلفها.
وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة