نون والقلم

الحريري وجرعات السم

التركيبة اللبنانية شديدة التعقيد. زواج شائك وطلاق ممنوع. وحين تضطرب معادلة التوازن بفعل عاصفة من الخارج أو مغامرة من الداخل يجد بعض الزعماء أنفسهم أمام كؤوس السم. تشتبك مع الآخر. تحاربه. تحاول أن تشطبه. ثم تجد نفسك ملزماً بالعيش معه في الشارع أو البرلمان أو قاعة مجلس الوزراء. تقول إنك لن تصافح من تلطخت يداه بدم أحبائك أو حلفائك، ثم ترغمك المعادلة على مصافحة كنت تشتهي تفاديها.
الوزير وليد جنبلاط خبير في تجرع السم. روى لي التجاذب الذي عاشه بعيد اغتيال والده كمال جنبلاط في 1977. كانت الخيارات صعبة؛ مغادرة البلاد، أو اعتزال العمل السياسي، أو سلوك طريق بيروت – دمشق. تجرع السم واعتمد الخيار الأخير. وبعد أربعين يوماً على الاغتيال استقبله حافظ الأسد، وكان أول ما قاله له: «كم تشبه والدك». وفي طريق العودة راح جنبلاط يحلل العبارة ويقلب معانيها.
تعددت ولائم السم أمام جنبلاط. كان أبرزها بعد اغتيال والده اغتيال رفيق الحريري. تجرع السم يومها وانتفض وكان العامود الفقري لما أطلق عليه «ثورة الأرز». لن تتأخر مواسم السم الجديدة. في 7 مايو (أيار) 2008 استخدم «حزب الله» سلاحه في الداخل اللبناني، وكان على جنبلاط أن يتجرع مع حليفه سعد الحريري سم «اتفاق الدوحة». ولم يكن سراً أن مشهد تحلق البرلمانيين اللبنانيين حول أمير قطر السابق حمد بن خليفة كان مقصوداً، ويبطن رغبة في الثأر من مشهد تحلق البرلمانيين اللبنانيين في الطائف حول الملك فهد بن عبد العزيز. وسيتجرع جنبلاط لاحقاً سم سلوك طريق بيروت – دمشق مجدداً للقاء الرئيس بشار الأسد، علماً أن الكيمياء غائبة بينهما منذ لقائهما الأول.
دخل وليد جنبلاط السياسة حاملاً نعش والده. في فبراير (شباط) 2005 سيدخل سعد الحريري السياسة حاملاً نعش والده. شاب استدعاه القدر المؤلم إلى نادي الملاكمين القساة، فانخرط فيه يوجه الضربات ويتلقاها، وغالباً ما يضطر إلى تجرع السم حرصاً على الوحدة الوطنية أو ما تبقى منها.
في ديسمبر (كانون الأول) 2009 تناول الحريري جرعة كبيرة من السم حين سلك طريق بيروت – دمشق ليصافح بشار الأسد. وقبل اللقاء كان الحريري تناول جرعة استثنائية حين أسرّ إليه اللواء وسام الحسن أن «التحقيقات تشير إلى إمكان ضلوع عناصر من (حزب الله) في اغتيال والده».
لن تتوقف مواسم السم على الرغم من الوساطات والتعهدات. كان سعد الحريري يستعد لدخول مكتب الرئيس باراك أوباما في 2011 حين فاجأه خبر من بيروت. استقال وزراء «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» و«حركة أمل». وهو ما يعني سقوط حكومته قبل عودته إلى بيروت. وبعد ذلك سيتجرع الحريري سم الإقامة سنوات خارج وطنه، بعد تجارب أظهرت أن الفوز بالأكثرية النيابية لا يعني القدرة على الحكم. فقد غيّر «حزب الله» قواعد اللعبة، وانتزع لنفسه حق النقض على أي قرار لبناني، كما انتزع حق إملاء قرارات على الآخرين.
خاف الحريري من تآكل ما تبقى من الدولة اللبنانية. «حزب الله» يعمّق إمساكه بمفاصلها، ووحداته تعبر الحدود لتقاتل في سوريا دفاعاً عن نظام الرئيس بشار الأسد وبذريعة محاربة «داعش». وإيران تواصل الاختراقات والتغييرات في أربع عواصم عربية. أقدم على مغامرة تندرج في باب تناول السموم. أيد الجنرال ميشال عون لرئاسة الجمهورية على الرغم من تحالف الأخير مع «حزب الله».
راهن الحريري على هذه التسوية. توقع أن يدير عون اللعبة بما يحفظ الحد الأدنى من حقوق الدولة وصورتها. لكن الرئيس بدا غير قادر على إدارة لعبة بهذا التعقيد، وثمة من يقول إنه غير راغب أصلاً. وبدا المشهد شديد الصعوبة والخطورة. صار وجود الحريري في الحكم نوعاً من الاستنزاف له ولفريقه. واشتد التجاذب الإقليمي بعدما بدا جلياً أن إيران مصرّة على تحجيم الدور العربي في الإقليم وإلحاق العراق وسوريا ولبنان واليمن بمحورها وسياساتها. ومع شيوع ظاهرة «الحشد الشعبي» والجيوش الموازية الجوالة وحديث التغييرات الديمغرافية وأزمة المكون السنّي في أكثر من بلد، بدا أن التسوية الهشة في لبنان معرضة للسقوط.
اكتشف الحريري بحكم الممارسة اليومية أن «حزب الله» الذي نجح في إحداث تغيير عميق في خيارات الطائفة الشيعية في لبنان، يصر على إحداث تغيير كامل في موقع لبنان وهويته. وتسبب نهج الحزب في توظيف الساحة اللبنانية في الانقلاب الإيراني الواسع بالمنطقة، في أزمات مع الحلفاء الطبيعيين للبنان؛ أي السعودية ودول الخليج، كما تسبب في أزمات وتعقيدات مع الولايات المتحدة ودول أخرى.
تعب الحريري من تجرع السم. لا يستطيع قبول أن يتحول وجود حكومته إلى نوع من التوقيع على عملية تغيير موقع لبنان وهويته وإبعاده عملياً عن محيطه العربي. في هذا السياق، جاءت الاستقالة التي تشبه الانتفاضة. ولهذا جاءت صريحة وواضحة وصيغت بعبارات قاطعة قال فيها الحريري كل ما كان يتفادى قوله حرصاً على الاستقرار والسلم الأهلي.
تصرف الحريري كمن قرر كشف اللعبة بكل أبعادها وإزالة كل الأغطية والمساحيق. قال إن لبنان لا يستطيع العيش في ظل التساكن بين دولة ودويلة وفي ظل التعايش بين جيشين، ولا يستطيع مغادرة موقعه الطبيعي للإقامة تحت المظلة الإيرانية. إنها معركة داخلية وإقليمية، وعلى اللبنانيين أن يختاروا فيها. إنها معركة صعبة لاستعادة الدولة اللبنانية من وصايات الداخل والخارج وستوزع فيها كؤوس سم كثيرة.

 

نقلًا عن الشرق الأوسط 

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button