نون والقلم

إميل أمين يكتب: فرنسا وأزمة السترات الصفراء

ما الذي يجري على الأراضي الفرنسية منذ أيام؟ وهل الأمر إعادة إنتاج لمظاهرات الطلبة التي جرت بها المقادير في العام 1968، أم أن المشهد يختلف هذه المرة؟
المتابع لبعض وسائط التواصل الاجتماعي في العالم العربي بنوع خاص، يرصد نوعاً من أنواع القراءات الاستباقية، كالقول إنه ربيع أوروبا على وزن ما جرى في الشرق الأوسط قبل 8 سنوات تقريباً، أو إنه خريف فرنسا وبقية أوروبا من بعدها، وهي قراءات متجاوزة للمشهد، ولا تنم إلا عن شهوات قلب مضطرب ومحاولات ثأر أدبي على الأقل من الفرنسيين لمواقف بعضهم تجاه عدد من قضايا المنطقة، وربما بنوع خاص دورها غير الإيجابي أو المحمود لما جرى في ليبيا منذ 2011 حتى الساعة.
الذين خرجوا إلى الشوارع في فرنسا قبل نصف قرن كانت قضاياهم آيديولوجية أول الأمر وآخره، فيما أصحاب السترات الصفراء جل همهم وشاغلهم هو الاقتصاد ومستوى العيش، والتفاوت بين ما وعد به الرئيس ماكرون خلال حملته الانتخابية، وبين واقع حال الفرنسيين الرافضين لرفع أسعار الوقود والخدمات الإضافية.
يقول بعض المتظاهرين إن نسبة غالبة من الشعب الفرنسي قد ضاقت ذرعاً بطريقة ماكرون «الملكية» الرافضة للفقراء والعاملين، وإنه لم يوفِ بوعوده التي أطلقها في أيامه الأولى في قصر الإليزيه، وأكد فيها أنه سيبذل كل الجهد من أجل توفير وظائف للفرنسيين، ولكن شيئاً ما لم يتحقق.
يلفت النظر أن ما يجري على الأراضي الفرنسية يُجمع عليه الفرنسيون من مختلف الأطياف والأطراف، ما يفيد بأننا إزاء حركة مدنية لا حركة سياسية، فقد لقي المتظاهرون دعماً واضحاً من تيار اليمين الفرنسي الجمهوري التقليدي، وبالطبع كان لليمين المتشدد نصيب في المشاركات، ومن اليسار ظهر واضحاً أن حزب «فرنسا الأبية» لم يتأخر عن الدخول في معترك معركة قوس النصر وجادة الشانزليزيه، إن جاز التعبير.
متظاهرو فرنسا يقترحون إدراج جميع مطالبهم للتصويت عليها في استفتاء شعبي، وهذا أمر يتسق مع السيرة والمسيرة الديمقراطية والتنويرية الكلاسيكية لفرنسا والفرنسيين، لكن الرئيس ماكرون يصر على فرض ضرائب الوقود أو شراء السيارات الكهربائية صديقة البيئة، وما بين الأمرين يتوقع المرء أن تتعالى في نهاية كل أسبوع المظاهرات إلى أن تصل إلى نقطة صدام تتمثل في أعمال شغب وتخريب مكلفة للغاية، وحتماً ستؤثر على فرنسا في أفضل موسم سياحي لديها، أي موسم أعياد الميلاد ورأس السنة، ويهدد بخسائر في الأرواح من جهة، ومن ناحية ثانية ارتفاع سقف الخلافات إلى حد المطالبة بحل الجمعية الوطنية، وربما المناداة باستقالة الرئيس ماكرون عينه، أي الدخول في مرحلة انسداد تاريخي فرنسي غير مسبوقة منذ زمن شارل ديغول رمز فرنسا المعاصر الأشهر.
هل ما يجري في فرنسا يمكن أن يلقي بتبعات معينة على بعض الدول الأوروبية الأخرى؟
دعونا قبل الجواب نشير إلى ما يتحدث عنه عدد من كبار الاقتصاديين حول العالم، ويتصل بمخاوف جذرية من كارثة اقتصادية ربما تضرب العالم في 2020. وها نحن نرى ارهاصاتها في عدد من دول العالم، ومن عجائب الأقدار أن تضحى أوروبا اليوم بدرجة أو بأخرى «بطناً رخوة» اقتصادياً حول العالم، وقد جاهدت كثيراً للخروج من الأزمة التي أعقبت زلزال 2008 في الولايات المتحدة وإشكالية البنوك العقارية، وفيما خرجت اليونان والبرتغال وإيطاليا، ها نحن نرى مخاوف جدية تتصل بالواقع الاقتصادي الأوروبي بشكل عام، ولم تعد ألمانيا كقاطرة اقتصادية قادرة على إنقاذ دول أوروبا، واحدة تلو الأخرى، ولهذا فإنه من المؤكد أن نرى ارتدادات وانعكاسات لما يجري في فرنسا، في بقية بقاع وأصقاع القارة الأوروبية.
إشكالية فرنسا الخاصة أن الجميع أوروبياً ودولياً ينظر إليها بوصفها العقل الأوروبي المفكر ومنارة التنوير، حتى إن كانت بريطانيا هي عضلات القارة القوية وسيدة البحار، وألمانيا هي خزينة أوروبا التي لا تنضب، لكن المثال الفرنسي يبقى نموذجاً عادة ما يحتذى من قِبل بقية شعوب أوروبا.
بُعد آخر من الأبعاد المثيرة للتأمل في المشهد الفرنسي يتصل بمستقبل الاتحاد الأوروبي، فقد رفع بعض المتظاهرين شعار «فريكست» على غرار «بريكست» أي فرنسا خارج الاتحاد الأوروبي، ما جعل البعض يتساءل هل بدأ بالفعل تحميل برنامج تفكيك أوروبا في «القلب الصلب» للقارة العجوز، وبدأت مرحلة الانفصال بعد الاتحاد، الذي كان أمل الكثيرين؟
مرة جديدة، الشعوب فقط وليس الجيوش، تمشي على بطونها. كما قال نابليون بونابرت ذات مرة. والذين خبروا العيش في فرنسا قبل ظهور اليورو وفي زمن الفرنك الفرنسي الشهير، يدركون أن مستوى العيش ارتفع هناك بشكل مغالٍ فيه، جعل الفرنسيين حائرين جهة جدوى البقاء في اتحاد لم يجلب لهم منافع قوية، أو يحسن من أداء حياتهم.
منذ عام تقريباً كتبت مجلة «التايم» الأميركية على صدر صفحتها الأولى، وبجانب صورة الرئيس ماكرون التي ملأت الصفحة: «القائد القادم لأوروبا»، غير أنها وفي دهاء شديد لا يغيب عن أعين القارئ المحقق والمدقق، كتبت في أسفل الصفحة جهة اليمين، وبخط صغير، مستطردة تقول: «فقط إذا تمكن من قيادة فرنسا»… فهل كان الأمر نبوءة استشرافية، أم سعي مخطط ومدروس كي لا تجتمع القارة على قيادة شابة قوية؟
السؤال الأخير، ومن دون الربط المباشر أو غير المباشر بفكرة المؤامرة التاريخية، هل ما يجري في الداخل الفرنسي محاولة إعاقة لها أو تأديب لتجرؤها الأسابيع الماضية، على طرح فكرة الجيش الأوروبي الموحد، وتالياً الانسلاخ عن «الناتو»؟
إن لم يكن التاريخ مؤامرة، فالمؤامرة موجودة في دفاتر التاريخ.

نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط السعودية 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى