يستدرج البحث في عنوان مثل « الغابة الإعلامية وعود الثقاب » خشيةً منهجيّةً من أن يشوب هذا الطرح صعوبة في تفسير كيفية الانتقال السريع بالأطر والمظاهر العامّة المحدّدة في الزمان والمكان إلى فضاء واسع يصعب الإحاطة به وبنتائجه السلبيّة. تبدو هذه الصعوبة ضروريّة وحتى مقصودة، اختلط فيها المزاج الخاص بالمجال العام الذي يختصّ بمجموع الناس، وسقطت معه الفروقات بين مقاصد الإعلام العربي والإعلام المستورد إلى العرب مثلاً، بهدف غير سليم لا يزيل الفوارق بين بلدٍ عربي وآخر بل يغذّيها ويمعن في تذكيتها متلحّفاً بطغيان الاعلام العالَمي المدجّج بالإستراتيجيات التي تشوّه الصور وتبذر الفوضى والعصف وأحياناً تعبّد الطرقات لتخريب الأوطان.
لنحدّد ما المقصود: كانت الشخصية العربيّة بتكوينها وتطوّرها متحرّكة كي لا نقول محكومة بزوايا متقاطعة ثلاث هي الأسرة والمدرسة ومؤسسّات المجتمع بأبعادها الثقافية والفكرية والقيمية. راحت هذه الزوايا تسقط تباعاً أو تنصاع لزاوية الإعلام وتحديداً الشاشة/الصورة التي راحت تتضاعف أهميتها لتلعب أدواراً مهمة في خلخلة وعي العرب ومفاهيمهم وقيمهم وطرائق عيشهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم لتنسف أحياناً مكونات الوعي الأخرى فتبدو المسألة الأهم في تكوين الأفراد وتطوّرهم.
لنحدّد أكثر: كانت «الجزيرة» القناة القطرية عند ولادتها ذهباً يستحمّ خارجاً من رحم مياه الخليج. جذبت العيون؟ نعم إلى درجة شبّهتها في مؤتمرٍ بكونها الطفلة العربيّة الجذابة المشرقة في عصر الفضاء والتي تأخذ بأيدينا بعدما قعدت على كرسيٍ من قش في زاوية من هذا الفضاء الشاسع. سرعان ما تحوّل المتنادون والسياسيون في فضائها إلى متناحرين متنازعين متضاربين مكسّرين الاستديوهات ومخلّعين خشب الطاولات التي يتحاورون فوقها وكأنهم لا يتجاورون ولن يتجاوروا وهم في موقع الهزء والتحقير.
مرّغت نخب العرب والعروبة والمسلمين وكأنّها كانت تمدّ الفراش لصورة الربيع العربي التي لا لزوم لذكرها وتفسير تفاصيلها في هذا المقام. صار العرب عبر «الجزيرة» مضرب مثلٍ للاختلاف والتخلّف على مستوى مفكّريهم ونخبهم وشعوبهم وتعكّرت معها مياه الخليج.
كانت الخلاصة أن أعرضت عنه العيون وانكشفت الأغطية إذ لم تخرج خطوة واحدة من الاتصال إلى الإعلام ولم تدخلنا في مقتنيات العصر إلاّ خجولين من أنفسنا في حلّ إشكاليّات فقدان الثقافة والمرجعية والخصوصيّات الناجمة عن هذه التقنيّات. صارت العروبة وكأنّها ساحة مفتوحة على العالم.
وإذا كانت الألفة والتفاخر من الدلائل الإيجابية لصفات الساحة لدى جمهور «الجزيرة»، فإنّ شعوباً أخرى في طليعتها الفرنسيّون مثلاً، كانوا يجاهرون، في عزّ العولمة الأخّاذ، برفض مثل هذه الساحة/الصفة التي تقوى وتترسخ بفعل تقنيّات الإعلام، ورأى فيها المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع C.S.A. «صفة خطرة، شديدة الخطورة، تبدو فيها فرنسا ساحةً من دون سياج».
للساحات مصائبها وأعباؤها في تاريخ الدول والشعوب لا يكبح جماحها كيفما كان. كان ينعكس معنى الساحة قوةً وضعفاً، اتساعاً وانتشاراً وضيقاً، تأسيساً لأن يلعب بلد صغير أدواراً أكبر بكثير من حجمه الجغرافي وفقاً للظروف الداخليّة الصعبة التي لم تفارق تاريخ العرب المعاصر في مناحيها السياسيّة والفكريّة، التي كانت لها نتائجها الملموسة وتأثيراتها الثقافية والاجتماعية والسلوكية واللغوية والتدميرية على السواء. بهذا المعنى، بدت الهويات مثار تجاذب وتنازع وانقسام على مختلف المستويات، بما فيها النظرة إلى الثقافة والحضارة ومستقبل العرب والمسلمين.
ولأنّ الإعلام مسؤولية كبرى متقدّمة في تسهيل التمزّق والانشقاقات، نتساءل بهدوء:
1- كيف ينظر الناس إلى الإعلام؟
تكاد لا تنتهي الزوايا التي ننظر منها إلى الإعلام. إنّها مثل مجمل الأفكار الجديدة التي يتعزز فيها منطق النسبيّة، فتتعدد الآفاق. يبدو الاعلام لصاحبه جبلاً شاهقاً لا يطوله العقل ولا البصر بشكل كامل لكن ينسى المسؤول أنّ المتسلّق يرى الجبل أفضل مكاناً للمغامرة والتزلج، بينما ينظر إليه الحطّاب مخزناً للحطب والحرائق والفحم والزراعة، وينظر إليه المهندس مقلعاً حجرياً، ويراه الغني أجمل موقع لبناء قصره. وهكذا لا يعود المهم كيف ومن أين جاءت البذرة ومَن أوصلها، بل كيف هي:
يجب أن تموت بالنسبة للزارع كي تنمو نبتته المنتظرة، وتحيا وتنمو بالنسبة لمنتظر الزهر كي يثمر وينتج، لكن الحقيقة والنتيجة كانت غير ذلك بالنسبة لدور الإعلام القطري وحجمه.
ليست النظرة إلى الإعلام واحدة قطعاً، السياسيون يحصرونه بالسلطة والأخبار والبرامج السياسية في نظرة تقليديّة قديمة إلى مفهوم السياسة قبل أن تصبح السياسة في تفاصيل وجزئيات حياة الناس وصحتهم وكرامتهم. ينظر المواطنون إليها بمعنى البرامج والأفلام التي تغزو منازلهم وتؤنسهم وتثقفهم لا لتهز كياناتهم وتستفزّهم وتخيفهم وتؤرّقهم. وينظر المعلنون وأصحاب الشركات الكبرى إلى الإعلام من زاوية عدد المشاهدين، والمردود المالي، فلا يعلنون إلا بما يتناسب وعادات الناس وحاجاتهم وشروخهم وانقساماتهم. والمعلنون هم وجه سلطان الاعلام الأقوى الخفيّ الذي لا يرضيه سوى سهولة إيصال الرسالة، وبهدف المزيد من الأرباح ومضاعفة دورة الاستهلاك. وينظر إستراتيجيو الاعلام إليه من زاوية الاتصال والتواصل والتثاقف بهدف الانفتاح المتجدّد والالتحام بالعالم لا الانفصال عنه.
2- ماذا يعني الكلام عن الإعلام في دولة صغيرة تصوّرت بشاشتها أنّها الميديا ستيت أو دولة إعلامية؟
يعني الوقوع في حفرة إشاعة إعلام الساحة والتنقير الذي يضعنا في مسائل معقّدة وحارقة تهدّد الدولة نفسها عندما تلعب بالكهرباء الاجتماعية أعني الشاشات، وهي لا يمكن ترميمها بكونها تتجاوز القدرات المالية والتقنية السهلة الاستيراد.
لماذا؟
لأنّ الشاشة قمّة المسؤولية وحاملة لإستراتيجيات الدول السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتتّخذ قوة ما يعرف بالبعد الرابع، إلى جانب أو بعد أو قبل الأبعاد الثلاثة المعروفة في ركائز الدول أعني بها: الاقتصاد والقوة والدبلوماسيّة. إنّها بهذا تبدو محشوّة بالكثير من المخاطر والأفخاخ التي تنقلب عليها وعلى جيرانها.
فالشاشة /الساحة/ الدولة التي لا تعرف حدودها وتقف عندها تشبه عود ثقاب صغير لكنّه يهدّد بحرق الغابات والحضارات.
واضح؟
نقلا عن صحيفة الخليج