نون والقلم

إسلام شفيق يكتب: مجموعات الواتس وحلول العصف الذهني الوهمية

على طريقة العرب في حل المشاكل ومناقشتها في مؤتمرات القمة العربية أصبحنا نواجه مشكلاتنا من خلال مؤتمرات الواتس آب الافتراضية. عندما تواجهنا مشكلةٌ ما أصبح أول ما نلجأ إليه تكوين جروب على واتس آب، نضع له عنوانًا يعبر عن الموضوع الذي نعتزم مناقشته ووضع حلولٍ له، مثل: (حل أزمة العمال)، يتزعم هذا الجروب أحد أعضائه، ونطلق عليه الأدمن، ويقوم هو بدور رئيس المؤتمر حيث يدعو الأعضاء ويضيف أرقامهم إلى الجروب، وغالبًا ما يكون هناك عضوٌ آخرٌ بارزٌ يتمتع بقبولٍ لدى المجموعة ويقوم بدور المساعد وتقريب وجهات النظر بين أعضاء الجروب، وضبط أداء المشاركين فيه، والتدخل لتهدئة الأوضاع إذا تطلب الأمر.

أخبار ذات صلة

وبصرف النظر عما إذا كان جميع أعضاء الجروب يعرفون بعضهم البعض في الحقيقة أم لا، يبدأ الحوار -كما تبدأ المؤتمرات العربية- بسيلٍ جارفٍ من منشورات الترحيب، حيث نرحب ببعضنا البعض بكل أنواع الترحيب والمدح، ونبالغ في تقديم بعضنا البعض بطريقةٍ تُظهر كلًا منَّا في صورة البطل المغوار صاحب القدرات الخارقة، وغالبا ما يتطوع بعض الأصدقاء بتقديم أصدقائهم في صورة شديدة الإيجابية والمثالية، على طريقة (فلان -لمن لا يعرفه- يتمتع بذكاءٍ شديدٍ وقدرةٍ عاليةٍ على التصرف في المواقف الصعبة، وهو مبدعٌ في تقديم الأفكار والحلول، وله شبكة علاقاتٍ واسعة في كل المجالات، وله مهاراتٌ متعددة وقدرةٌ على الحوار والمواجهة وإقناع الآخرين وكسب ولائهم، وغيرها من أساليب المبالغة).

وبعد أن يهدأ سيل الترحيبات والتقديمات، تنهال عددٌ من المشاركات التي تهدف إلى تقديم المشكلة وتقييمها وتوصيفها من جميع جوانبها، وبعد الانتهاء من هذه المرحلة التي غالبا ما تشهد بعض الخلافات البسيطة والسطحية في وجهات النظر، وسرعان ما تختفي مع تدخلات التوفيق والتقريب التي يقوم بها الأدمن أو مساعده أو بعض الأعضاء المتقاربين في الأفكار، تبدأ مرحلةٌ هي من أهم مراحل تطور الجروب وأخطرها، حيث يتحول الجميع دون أن يشعروا إلى مجموعةٍ من كبار المفكرين الخارقين، وتبدأ موجاتٌ مركزةٌ من العصف الذهني أقل ما توصف به أنها جلساتٌ رائعةٌ وحماسيةٌ تظهر فيها جميع الأفكار الرائعة والقوية التي يمكن لكل منها حل المشكلة والقضاء عليها إذا التفَّ حولها الجميع وناقشوها وحوَّلوها إلى خطة عملٍ لكل منهم دور في تنفيذها وإنجاحها من خلال فريق عمل جماعي متعدد المهارات، وتبرز في هذه المرحلة قدراتٌ خلَّاقة لوضع الحلول والمعالجات اللازمة لمواجهة الأزمة أو القضية التي نحن بصددها، ويصبح لدى كل منا القدرة على تنقيح أفكار الآخرين، بإضافة عناصر جديدة للحل أو حذف عناصر قائمةٍ بالفعل ويشارك كل عضوٍ في مناقشة حل العضو الآخر.

لكن للأسف، فعند هذه النقطة تحديدًا، ونحن في أوج حماسنا ونجاحنا، نستدعي أجواء القمم العربية، فتظهر الانشقاقات التي لا تلبث أن تتحول إلى خلافٍ في الرأي، والتهوين من شأن فكرة عضوٍ ما، أو تأييد فكرة عضوٍ آخر، وتشريحٍ سلبيٍّ لعوامل فشل فكرة فلان، أو تحليلٍ إيجابيٍّ لعوامل نجاح فكرة فلان، ويبدأ الدخان في التصاعد، وتتلبد الأجواء بالغيوم، وتبدأ الشخصنة في تمزيق المجموعة، لتمهد إلى مرحلة الاصطفاف، فيتحول عددٌ من الأعضاء إلى تأييد فكرة فلان، وآخرون إلى تأييد فكرة فلان، وغالبًا ما يكون الاصطفاف حول فكرةٍ أو اثنتين أو ثلاثة أفكارٍ قبل أن يبدأ فريقٌ من المصطفين في الخروج من هذا الجروب، وتشكيل جروبٍ موازٍ، واختيار عنوانٍ مشابهٍ لعنوان الجروب الأصلي، مثل: (الحل الناجح لأزمة العمال)، مع احتفاظهم بعضويتهم في الجروب الأصلي، قبل أن يتحول الفريق الثاني إلى جروبٍ آخر يحمل اسمًا آخرًا موافقا لفكرتهم التي اجتمعوا عليها، مثل: (الحل الحقيقي لأزمة العمال)، وتطالب أول المنشورات في الجروبين الجديدين بأن يبقى الجميع أعضاءً في الجروب الأصلي ليحتفظوا بوضع المراقب، بحجة أنهم يراقبون كيف يفكر أصحاب الجروب الأصلي، وتتعالى المطالبات باتخاذ الحيطة والحذر عند النشر على الجروب الأصلي حتى لا يرتاب أحدٌ من أعضائه بهم، وأخذ الحيطة والحذر على الجروب الفرعي أيضًا، خوفًا من وجود بعض الجواسيس المندسين بينهم، وكذلك يفعل أصحاب الجروب الفرعي الثاني ليراقبوا ردود أفعال الفريق المنشق الأول، وبين هذا وذاك يلجأ أفرادٌ من أعضاء الفريق الأول إلى تسجيل الخروج باعتبارهم غير راضين عن أداء الجروب، ويرون أنه مجرد هراء ولا جدوى من بقائهم فيه، وهناك أيضًا فريقٌ رابعٌ وهو فريق الصامتين منذ البداية حتى النهاية، لا يشاركون بآرائهم أو أفكارهم ولا ينحازون لفريقٍ دون آخر، هم في الأساس لا يريدون سوى مراقبة الوضع والانتساب للفريق الذي يحقق انتصارًا لأفكاره ومقترحاته في نهاية الأمر، وهؤلاء غالبًا ما تبدأ منشوراتهم في الظهور عندما يتحقق الفشل الذريع للجروب، وغالبًا ما تكون في شكل: (الحمد لله أننا لم نشارك في أي شيء، لأننا توقعنا فشل الجروب منذ البداية، مثل هذه القضايا لا تناقَش في جروبات الواتس آب)، أو: (التزمنا الصمت منذ البداية لأننا كنا نرى أن هذه الأفكار جميعها فاشلة ولن تحقق أي نجاحٍ يذكر)، أما الفريق الأخير -وهو فريق المثبطين الشامتين- فتأتي منشوراتهم في شكل: (قلت لكم من البداية أن هذا الجروب فاشلٌ ولا فائدة منه).

وبعد أن يمر الجروب بكل هذه المراحل تأتي مرحلة النهاية، حيث يتحول الجروب إلى خزان اجتماعي لمنشوراتٍ مثل: صباح الخير ومساء الخير ومنشورات المعايدة في الأعياد والمناسبات العامة والعزاء، ولا يخلو الوضع من عددٍ يوميٍّ من منشورات النصائح الطبية والمعلومات العلمية والأدعية والمنشورات الدينية التي غالبًا ما يتزعمها عددٌ من الملتزمين دينيًا في الجروب.

هذا هو الوضع الذي يعكس واقعنا الحقيقي الذي استطعنا -وبتفوق- أن نثبت من خلاله أننا نُبدع في تحويل واقعنا الحقيقي إلى واقع افتراضي وأن نُسخِّر التكنولوجيا لصياغة فشلنا الواقعي وتحويله إلى فشل إلكتروني.

العيب فينا أم في التكنولوجيا؟ التاريخ يثبت أن العيب فينا، فعندما ظهرت تكنولوجيا «كول كونفرانس» أو خاصية مكالمات المؤتمرات الهاتفية حولناها -باقتدار- إلى صراخٍ عبر أسلاك الهاتف وترددات شبكات المحمول، يرفع فيها كلٌ منَّا صوته ليكون هو المسموع دون احترامٍ لرأي الآخر أو دوره في الحديث، ويقاطع بعضنا البعض، بل ويتحدث شخصين أو ثلاثة أو أربعة أشخاصٍ في وقتٍ واحد، فيتحول المؤتمر الهاتفي إلى صراخٍ متبادلٍ لا نفهم منه شيئًا، والشيء نفسه فعلناه عندما ظهرت تكنولوجيا “فيديو كونفرانس” أو مؤتمرات الفيديو عبر الأقمار الصناعية، جلُّ ما تغير هو إضافة الصورة إلى الصوت الذي كنا لا نسمعه في الأساس، وأصبحت لغة الجسد تعزز اختلافنا وانشقاقاتنا وتفرقنا، كذلك الوضع في استخدامنا لبرامج “توك شو” التي نقلناها من الغرب كما هي، دون أن نستفيد من أدب الحوار الذي يمارسه الضيوف هناك، فتحولت -بعد أن أضفينا عليها شخصيتنا العربية- إلى مساحة من الصراخ والسباب وأحيانا العراك بالأيدي والأحذية.

وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتكرس واقعنا الأليم، فبعد أن وفَّرت لنا ما كنا نعتبره في يوم ما ضربًا من المستحيلات، وسمحت لنا بتحويل المؤتمرات الكبرى -التي تتطلب جهدًا خارقا وتكاليف باهظة لتنظيمها- إلى مؤتمراتٍ صغرى بين مجموعاتٍ أصغر، لكلٍّ منها هدفٌ صغير، سمحنا لأنفسنا باستنساخ نماذج مؤتمراتنا الكبرى، وحوَّلناها إلى مستودعاتٍ لكل مخلَّفاتنا الفكرية، وتنافسنا من خلالها لإبراز قدراتنا وبراعتنا في الاختلاف والفشل وشخصنة الأفكار والحلول ووجهات النظر ورفض الآخر والامتناع عن دعمه ومحاولة استنزافه وتشويهه والنيل منه وإفشال تجربته، وحتى لو أثبت نجاحه فإننا نسعى إلى القليل منه وإفشاله.

هذه دعوة لمواجهة أنفسنا من خلال نقد الذات، ومراجعة علاقاتنا مع التكنولوجيا ووسائلها المتجددة، وتنظيم صفوفنا ووضع خططٍ لبناء ثقافة الحوار والاختلاف وقبول الآخر والعمل الجماعي، لعلَّنا نكفر عن ذنوبنا السابقة، ونلحق بما هو متوفرٌ بين أيدينا من فرصٍ متاحةٍ لا نتقن استغلالها، أو -على أقل تقدير- نجهز أنفسنا للحاق بثورة التقدم التقني، وتحقيق الاستغلال الأمثل لوسائل التكنولوجيا القادمة.

tF اشترك في حسابنا على فيسبوك وتويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى