نون والقلم

إسلام شفيق يكتب: رحلة التعري في محراب «الترافيك»

الترافيك وما أدراك ما الترافيك. تبدأ الحكاية غالبا باجتماع يعقده رئيس التحرير في قاعة اجتماعات صغيرة على طاولة تتسع لنحو عشرة أشخاص، لكن الاجتماع لا يضم سوى أربعة أشخاصٍ أو خمسة -على الأكثر- يخططون لتأسيس موقعٍ إخباري لوسيلة إعلامٍ قائمة بالفعل أو جريدةٍ إلكترونية جديدة مستقلة بذاتها.

غالبًا ما يترأس هذا الاجتماع رئيس مجلس الإدارة أو مالك الموقع أو مندوبه، أيا كان توجهه أو مرجعياته، ليطرح على الحضور التصور العام للموقع والهدف من تأسيسه، ويطمئنهم بكلمات فضفاضة عن التمويل الذي سيُغدق عليهم في سبيل الوفاء بالرسالة الإعلامية الأسمى التي يسعى الموقع لتحقيقها، ألا وهي الحياد والموضوعية والأمانة والمصداقية، قبل أن تنهمر من بين شفتيه فيضانات النزاهة وأخلاقيات المهنة وثقة القراء وحقهم في استقاء الأخبار من مصادرها الموثوقة، دون أن يغفل في خضم هذه الجلسة الروحية أن يذبح قرابين الوفاء أمام نصب الصحفي المجهول الذي ضحى بحياته دفاعًا عن حرية القلم ومسؤولية الكلمة.

دائما ما يأتي دور رئيس التحرير عقب انتهاء كلمة رئيس مجلس الإدارة أو المالك، ليلتقط طرف قصيدة حرية القلم الذي تدلى من فم المالك قبل أن يبتلعه إلى الأبد، ويلملم فتات مسؤولية الكلمة الذي تساقطت قطع منه على طاولة الاجتماعات، ويصنع منهما خطة عامة وسياسة تحريرية للموقع الإخباري الذي اختاره المالك ليكون قبطانه، وليسهب في تضميد ما تبقى من شكوك لدى حضور الاجتماع حول النزاهة والمصداقية، وليصطاد الفأر الذي يلعب في صدروهم تجاه الهدف من تأسيس هذا الموقع. لكن الجميع بمن فيهم مدير التحرير وسكرتير التحرير والمدير العام -إن وجد- لا يتوقفون كثيرًا عند كل ذلك، فقد سمعوه لعشرين مرةٍ على الأقل في حياتهم المهنية، دون أن يلتزموا به أو يمنحوه للقارئ.

الخطوة التالية لن تتأخر كثيرا، فسرعان ما يتكرر هذا الاجتماع في قاعةٍ أكبر تتسع لعدد لابأس به من المقاعد، غالبا ما يزيد على عشرين مقعدًا، لكن الطاولة هذه المرة مزدحمة بالحضور ما بين صحفيين ورؤساء أقسام ومراجعين ومسؤولي الجرافيك ومواقع التواصل، وغيرهم من العناصر المكونة للموقع الإخباري، ليُلقي عليهم رئيس التحرير المحاضرة نفسها بكل عناصرها السابقة، ولا يفوته أن يؤكد على أن من لا يلتزم يهذه المعايير سيكون أول من يحفر قبره بنفسه ليصبح أول أضحية تذبح في عيد الحياد المبارك، لتكفر دماؤها الزكية عن خطايا الصحفيين الأفاقين الذين يلونون أخبارهم ولا يتحرون الصدق والنزاهة في نقلها.

هؤلاء الصحفيون منهم من تمرس المهنة واختبر كذبها وزيفها من قبل، ومنهم من لا يزال في مرحلة البراءة، لم يترك مقاعد الدراسة سوى من فترة قصيرة، ولا يزال يحمل في روحه مبادئ المهنة التي سمعها من أساتذته، ولا يلبث أن يصدق بفطرة المستجدين كل كلمة تقال له من رؤسائه الذين كان لوقت قريب يحلم بأن يصافحهم وأن يلتقط لنفسه صورة «سيلفي» معهم يتباهى بها على أقرانه بنشرها على صفحته في فيسبوك أو إنستجرام.

تمر الأيام ليجلس هذا المسكين في صالة التحرير ويبدأ رويدًا رويدًا في اكتشاف الحقيقة المرة التي تصيبه غالبًا بصدمة فقدان الثقة في كل الرموز. لن يمر وقت طويل. البداية بكل زخمها من مصداقية وتجريد وحياد وموضوعية وأمانة ونزاهة وحرية ومسؤولية سرعان ما تصبح شهر عسل ينتهي مع أول اجتماع يُدعى إليه الرؤساء في صالة التحرير، ليواجههم هذا الذي هو ممثل المالك بأنه بدأ يتململ من ضعف القراءات والإقبال على الأخبار من جانب الجمهور، وأن الممول أصبح يخشى على استثماراته بسبب ما يعرف بضعف الترافيك.

ولمن لا يعرف هذه الكلمة، هي كلمة أجنبية تعني «المرور» وتُحصي عدد الأفراد الذي يفتحون الموقع الإخباري ويقرأون المواد المنشورة فيه، وهذا المصطلح هو المعيار الذي يُبنى عليه أي تقييم للموقع الإخباري ويتحكم في حجم الإعلانات التي يحصل عليها إن كان يبحث عن إعلانات، أو في مدى الإشباع الذي يُرضي مموليه إن كان يبحث عن رسالة يرغبون في توجيهها للجمهور أو قيادته وتوجيهه من خلالها.

الشاهد هنا أن الترافيك أو المرور أصبح الإله الذي تسجد له المواقع الإخبارية على اختلاف مستوياتها المحلية والإقليمية والعالمية، الصغرى منها والكبرى، حتى أن بعضًا من أهم تلك المواقع وأشهرها على مستوى العالم -مثل موقع (BBC) العربية أو (CNN) العربية- أصبحت تنافس أصغر المواقع على نشر الأخبار والعناوين التي تلهب الترافيك دون أي قيد أو شرط يضع المصداقية أو أخلاقيات المهنة في معادلة واحدة مع الترافيك.

الوقت يمر، وينعقد الاجتماع الأول ويُبلغ مندوب الممول أو المالك رؤساء الموقع بأن الوقت قد حان للتخفيف من حدة المصداقية والنزاهة، ولا بأس من قليلٍ من الإثارة والإغراء، علينا أن نُعري سنتيمترات فقط من القدمين والذراعين والكتف حتى نحقق مزيدًا من «الترافيك».

وتبدأ رحلة التعري، وتتوالى الاجتماعات، وفي كل اجتماع يتنازل أولئك الذي ألقوا على مسامعنا قصائد المهنية والمسؤولية عن جزء آخر من جسد المصداقية، حتى تخلع الصحيفة الإلكترونية ثيابها الداخلية كاملة في معبد «الترافيك» الذي يسكر بدماء النزاهة والموضوعية والحياد.

لا بأس إذن أن نضع عنوانا رئيسيًّا مُلونًا لجذب شريحة من القراء، أو صورة مثيرة لراقصة أو فنانة لجذب شريحة أخرى، أو عناوين تشبه تلك التي تشاهدها في صدر الصحف الصفراء أو أخبار مجهولة المصدر وليس لها أساس من الصحة، طالما أن ذلك سيتحول في النهاية إلى رصيد كبير من الجمهور على الموقع ووسائل التواصل المرتبطة به.

الكل يعلم منذ اللحظة الأولى أنهم سينفذون توجهات وأهداف المالك سواء كانت سياسية أو تجارية أو طائفية أو حزبية أو غيرها، وبصرف النظر عن هذه الخطب العصماء التي ألقيت في الاجتماع الأول، سيجلس الجميع في النهاية في ملهى الصحافة الليلي، ليسكروا بكؤوس حرية الصحافة وهم يشاهدون المهنة تخلع أثواب النزاهة قطعة قطعة في محراب «الترافيك» الذي يجلس على طاولة التحرير متربعًا في منتصفها تمامًا، معلنًا نهاية رحلة التعري بحفل ينزع في نهايته ورقة التوت التي كانت تحافظ على ما تبقى من كرامة الصحيفة الإلكترونية.

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

زر الذهاب إلى الأعلى