المستشار بهاء ابو شقة يكتب: السلطة عند ابن خلدون
نتعرض اليوم للحديث عن العصبية والسلطة عند الفيلسوف العظيم «ابن خلدون». فبعد أن تعرض ابن خلدون لمفهوم العصبية وأسباب وجودها أو فقدانها، انتقل إلى موضوع حساس وهام، مبينا دور العصبية فيه، ألا وهو موضوع «الرئاسة» الذى سيتطور فى (العمران الحضري) إلى مفهوم الدولة. فأثناء مرحلة «العمران البدوى» يوجد صراع بين مختلف العصبيات على الرئاسة ضمن القبيلة الواحدة، أى ضمن العصبية العامة حيث: (إن كل حى أو بطن من القبائل، وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام، ففيهم أيضا عصبيات أخرى لأنساب خاصة هى أشد التحاما من النسب العام لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو أخوة بنى أب واحد، لا مثل بنى العم الأقربين أو الأبعدين، فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص، ويشاركون من سواهم من العصائب فى النسب العام، والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام، إلا أنها فى النسب الخاص أشد لقرب اللحمة). ومن هنا ينجم التنافس بين مختلف العصبيات الخاصة على الرئاسة، تفوز فيه بطبيعة الحال العصبة الخاصة الأقوى التى تحافظ على الرئاسة إلى أن تغلبها عصبة خاصة أخرى وهكذا.. ولما كانت الرئاسة انما تكون بالغلب، وجب أن تكون عصبة ذلك النصاب (أى أهل العصبية الخاصة) أقوى من سائر العصبيات ليقع الغلب بها وتتم الرئاسة لأهلها. فهذا هو سر اشتراط الغلب فى العصبة، ومنه تعين استمرار الرئاسة فى النصاب المخصوص).
يحدد ابن خلدون مدة وراثة الرئاسة ضمن العصبية القوية بأربعة أجيال على العموم، أى بحوالى 120 سنة فى تقديره. ذلك بأن بانى المجد عالم بما عاناه فى بنائه ومحافظ على الخلال التى هى سبب كونه وبقائه، وبعده ابن مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذ عنه، إلا أنه مقصر فى ذلك تقصير السامع بالشىء عن المعاين له، ثم إذا جاء الثالث كان حظه فى الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثانى تقصير المقلد عن المجتهد، ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن أمر ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر واجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصبية. واعتبار الأربعة من الأجيال الأربعة بان ومباشر ومقلد وهادم.وبذلك ينهى ابن خلدون نظريته المتعلقة بالسلطة أثناء مرحلة (العمران البدوي) ويخلص إلى نتيجة أن السلطة فى تلك المرحلة مبنية أساسا على العصبية بحيث لا يمكن أن تكون لها قائمة بدونها.
وانطلاقا من نظريته السابقة المتعلقة بدور العصبية فى الوصول إلى الرئاسة فى المجتمع البدوى، واصل ابن خلدون تحليله على نفس النسق فيما يتعلق بالسلطة فى المجتمع الحضرى، مبينا أن العصبية الخاصة بعد استيلائها على الرئاسة تطمح إلى ما هو أكثر، أى إلى فرض سيادتها على قبائل أخرى بالقوة، وعن طريق الحروب والتغلب للوصول إلى مرحلة الملك،. وهذا التغلب هو الملك، وهو أمر زائد على الرئاسة. فهو التغلب والحكم بالقهر، وصاحب العصبية إذا بلغ رتبة طلب ما فوقها. معتمدا فى تحقيق ذلك أساسا وبالدرجة الأولى على العصبية حيث انأآإآببانيييي (الغاية التى تجرى إليها العصبية هى الملك). فهذه إذن المرحلة الأولى فى تأسيس الملك أو الدولة، وهى مرحلة لا تتم إلا من خلال العصبية.
بالوصول إلى تلك المرحلة يبدأ (العمران الحضري) شيئا فشيئا وتصبح السلطة الجديدة تفكر فى تدعيم وضعها آخذة بعين الاعتبار جميع العصبيات التابعة لها، وبذلك فإنها لم تعد تعتمد على عامل النسب، بل على عوامل اجتماعية وأخلاقية جديدة، يسميها ابن خلدون (الخلال). هنا تدخل الدولة فى صراع مع عصبيتها، لأن وجودها أصبح يتنافى عمليا مع وجود تلك العصبية التى كانت فى بداية الأمر سببا فى قيامها، (يتراءى لنا مبدأ نفى النفى فى المادية الجدلية إضافة رابط المادية الجدلية إن وجد ). ومع نشوء الملك يتخطى الملك عصبيته الخاصة، ويعتمد على مختلف العصبيات. وبذلك تتوسع قاعدة الملك ويصبح الحاكم أغنى وأقوى من ذى قبل، بفضل توسع قاعدة الضرائب من ناحية، والأموال التى تدرها الصناعات الحرفية التى تنتعش وتزدهر فى مرحلة (العمران الحضرى) من ناحية أخرى.
لتدعيم ملكه يلجأ إلى تعويض القوة العسكرية التى كانت تقدمها له العصبية الخاصة أو العامة (القبيلة) بإنشاء جيش من خارج عصبيته، وحتى من عناصر أجنبية عن قومه، وإلى إغراق رؤساء قبائل البادية بالأموال، وبمنح الإقطاعات كتعويض عن الامتيازات السياسية التى فقدوها. وهكذا تبلغ الدولة الجديدة قمة مجدها فى تلك المرحلة، ثم تأخذ فى الانحدار حيث إن المال يبدأ فى النفاد شيئا فشيئا بسبب كثرة الإنفاق على ملذات الحياة والترف والدعة. وعلى الجيوش ومختلف الموظفين الذين يعتمد عليهم الحكم. فيزيد فى فرض الضرائب بشكل مجحف، الشىء الذى يؤدى إلى إضعاف المنتجين، فتتراجع الزراعة وتنقص حركة التجارة، وتقل الصناعات، وتزداد النقمة وبذلك يكون الحكم قد دخل مرحلة بداية النهاية، أى مرحلة الهرم التى ستنتهى حتما بزواله وقيام ملك جديد يمر بنفس الأطوار السابقة التى يجملها ابن خلدون فى خمسة أطوار.. وحالات الدولة وأطوارها لا تعدو فى الغالب خمسة أطوار.
.. وللحديث بقية
رئيس حزب الوفد