نون والقلم

سياحة الزعماء بين الحق والمحق

يحاول أوباما أن يذيل ولايتيه الرئاسيتين بتوقيعٍ يحمل الكثير من حكمة المصالحة مع التاريخ ونبذ العنصرية والبحث عن المشترك بين الدول الكبرى والشعوب بحثاً عن ملامح المستقبل. هو ذاهب إلى هيروشيما بعد كوبا وبعد سحب قواته من أفغانستان والعراق نسبياً بمبادرة أو نقطة ختامية شخصية. هناك سيتفرج بالطبع بعد سبعة عقود من القنبلة النووية على دمغة المحق، متناسياً دمغة الحق التي بدأت منذ فلسطين فتتفشى أهوالاً وخوفاً وعجزاً في الشرق العربي. وللمفارقة، تدمغ صرخات المرشح الرئاسي دونالد ترامب الآذان العالمية بعنصرية المطالبة بإقفال أبواب أمريكا والغرب في وجه المسلمين في خطب مرتجلة ربطته مباشرة بهتلر.
سؤال: كيف نفسر تلك الطاقات التدميرية الهائلة في صناعة الأسلحة التقليدية التي تختبر في جسد بلادنا بل كيف نفسر توغل الغرائز عبر تحديات جهنمية؟

وهل صحيح أن الأسلحة النووية التي جعلت العالم منذ سبعة عقود أقل نزوعاً نحو الحرب، هي التي ضاعفت وتضاعف من شراسة الحروب التقليدية والعصابات؟

للجواب أستعيد ما قاله روبرت أوبنهايمر المعروف ب «والد القنبلة النووية» بعد الانتهاء من صنعها: Now I ambecome Death, the destroyer of worlds ، أي «الآن أصبحت أنا الموت مدمر العالم» وهذا قول صحيح بعدما جربت البشرية أن تدفع في خلال وقت قصير ما دفعته في الحرب العالمية من ضحايا وخراب. من بين شفتي هذا الرجل تجاوز الخوف البشري كل سلطان فتوزعت الأمم حول طاولات المنظمات الدولية بطاولاتها المستديرة أو المكسرة الزوايا التي لم تتوصل بعد إلى دواء.

المتابع لما يكتب أو يبث في وسائل الإعلام في العالم لا فرق بين غرب وشرق، يتيقن أن الخوف عاد مجدداً يوحد البشر وكأنهم في حرب عالمية بنسخٍ جديدة، لكنه لا يوحد العرب والمسلمين كثيراً حتى عندما يصنفهم العالم مصدراً أو سبباً لهذا الخوف مع أن الواقع غير صحيح ولو أن فصائل كثيرة هي أدوات جاهزة للعنف والإرهاب.
يمكننا الإقرار بأن حكم الفلسفة والأديان والعقل وحتى العلم كلها محطات أخفقت بدورها في تقريب البشر نحو إرساء الحوار الحضاري المتكافئ والاعتراف المتبادل بما يسمى ارتجالاً «الأسرة الدولية». هذه التسمية المعاصرة لم تلغ شهية الحروب كونها كانت الملاذ الأخير لضعف البشر. وقد يكون منطقياً مثلاً لمن يستعيد خطب هتلر النازية العنصرية ويقارنها بالخطب التي يطلقها دونالد ترامب المرشح إلى البيت الأبيض والتي تجعله «الرجل الأكثر خطورة في العالم» كما وصفته الصحافة الألمانية، أن يمحو 71 سنة من زماننا، وكأننا وبالمعنى السوريالي نعيش زمن النازية.

استبشرنا جميعاً بعصر الفضاء وتكنولوجيا الإنترنت الذي سحر البشرية، وكاد ينافس الإستراتيجيات والعقائد، بعدما أسقط، الحدود والحواجز السميكة الثقافية واللغوية بين الدول والشعوب، وجعل إمكانات الرفاهية في التواصل الإنساني نقطة جذبٍ للمعلومات والتعارف بين أهل الكوكب. لكن هذا السحر أسقط قوة المعرفة وقزم الحكمة وقلص عقول العديد من الزعماء والقادة في العالم وعظم الغرائز التي تسير أمام العقل وتقوده اليوم.

هكذا يمكنني إعلان فشل العصر التكنولوجي في تحقيق العدالة والوفرة والمساواة كما في توحيد البشر الافتراضي والمنتظر، وكذلك في كبح غرائزهم وسياساتهم الموغلة في العنف والتخريب. لكن هل تراه ينجح بعد في حماية البشر من تكرار أثمان باهظة ومكلفة قد تتجاوز ما حصل في الحرب العالمية الثانية؟

ليس هناك أبشع من وصم أحدهم بالنازي أو الفاشي. ماذا لو أغمضنا عيوننا، وتخيلنا معاً للحظة مئة مليون بشري قتلوا في الحرب الكونية الثانية بما لا يهضمه عقل أو وجدان؟

نبقى عاجزين نكرر السؤال التاريخي: أين كانت البشرية اليوم لولا دحر الفاشية الأولى والقنبلة الهيروشيمية التي لم يرتح البشر من تداعياتها بعد؟

1- قطعاً تنفس العالم بعض الشيء واستقر في مايو/ أيار 1945، بعدما أنقذت البشرية من تغولات الإبادات ومجانية القتل. وكان النظام العالمي الذي أرسى عقوداً من الاستقرار النسبي من دون أن ننسى السلبيات والصراعات التي سادت طوال الحرب الباردة بعدما انقسم العالم إلى محورين عظيمين مباشرة مع نهاية الحرب العالمية الثانية. كان الغرب مسكوناً بالرغبة القاتلة في تدمير القوة العظمى السوفييتية أو تفكيكها في اليوم التالي الذي وضعت فيه الحرب الثانية أوزارها. تلك الرغبة لم تتحقق.
2- كنا نتصور أن شجرة البغض والتحقير والإلغاء والحقد قد يبست من جذورها، لكن النزعات والتنظيمات الفاشية الجديدة والأفكار العنصرية التي نشهدها الآن ونراها كيف عادت تفرخ في مساحات الغرائز والعقول والخطب في العديد من البلدان الغربية تظلل بها الأزمات البنيوية والاقتصادية والاجتماعية وتطوقها كلما شاعت الوحشية في القتل. والأخطر من هذه المظاهر، تنامي التحالفات المعلنة أو الخفية التي تدمج الدين بالسياسة والحروب والطائفية وتحت عناوين مكافحة الإرهاب والرعب من تدفق النازحين والمهاجرين نحو الغرب هرباً من حروب الإبادات، فيقع العالم مجدداً في مآزق تهديم أبسط العمارات لمنظمات حقوق الإنسان وتجاربها.

هكذا تحولت الرغبة المدفونة في التدمير النووي المحظورة بعد هيروشيما رعباً دولياً من استحضار أو حتى التفكير بقرارات قيامية يتخذها رئيس دولة ما، أو تمارسها جماعات تكفيرية تسطو على مخازن الدول السرية وتستعملها بصفتها مقيمة في الفوضى ولا علاقة لها بالدول. هنا يظهر، إذن، السبب الأول النفسي العظيم واللاواعي، الذي لربما يضاعف من قوة الجيوش والأسلحة والفصائل التدميرية وكلها تبرع في توريث الضحايا والخرائب والارتفاع بالعنف إلى القمم الدموية. إن روسيا لم تكن نائمة ولطالما كانت تترقب إعادة رسم عظمتها من الشرق الأوسط، ولقد سمعتم دونالد ترامب بدوره أيضاً يسأل ناخبيه الأمريكيين: كيف نستعيد عظمة أمريكا؟
أوباما يبحث عن عملٍ بعد البيت الأبيض، ومن لديه الجواب فليتفضل!

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى