نون والقلم

هل يسترجع الرئيس غزة أو سيفقد ما تبقى له من الضفة؟

ثمة اعتقاد رائج بين المراقبين الفلسطينيين مفاده أن فتح ستخسر الضفة الغربية وتربح قطاع غزة في أول انتخابات حرة ونزيهة، وأن حماس ستخسر القطاع وتربح الضفة الغربية في المقابل … لا أدري مدى ملاءمة هذه النظرية مع الاتجاهات الواقعية للرأي العام الفلسطيني، بيد أنني أعتقد أن لها جذراً في استطلاعات الرأي العام، والمزاج الشعبي  الذي يهيمن على جناحي الوطن المحتل والمحاصر.

وإن ذهب الرئيس عباس في مسعاه لإخضاع حماس وإعادتها لبيت الطاعة، وأقدم على تنفيذ سلسلة الإجراءات التي توعد بتطبيقها إن فشل المسعى الأخير لاسترداد القطاع، وبما يتخطى «سلسلة الرتب والرواتب» المعمول بها منذ اليوم الاول للانقسام، فليس مستبعداً أبداً، أن يخسر الرئيس ومن ورائه فتح والحركة الوطنية الفلسطينية، الضفة والقطاع معاً، فلا يكون استرد القطاع، ولا حفظ الضفة الغربية في الوقت ذاته.

ذلك أن الفصل بين حماس والقطاع، بات عملية شديدة الصعوبة والتعقيد، وهي معضلة واجهت إسرائيل وفشلت في حلها … إذ من دون التورط في «فرض عقوبات جماعية» على أهل القطاع، يصعب الذهاب حتى نهاية الشوط في معاقبة حماس … إسرائيل امتهنت سياسة العقوبات الجماعية، من دون حسيب أو رقيب، ومن دون رادع أو وازع، فهل سيكون بمقدور أي جهة فلسطينية أن تحذو حذو “عدوها”، وأن تستلهم منه بعض أدواته ووسائله ؟

لا أحد يريد للوضع الشاذ في قطاع غزة أن يستمر، ولكن بعد عشرية عجفاء من السنين، تتذكر القيادة الفلسطينية اليوم، أنه يتعين عليها العمل بكثافة وغلظة لبسط «شرعيتها» على حماس والقطاع، تحت طائلة إعلانه «إقليماً متمرداً» أو إعلان حماس، حركة انقلابية، وربما «إرهابية»، ومن ثم البناء على الشيء مقتضاه، فيما خص المخاطبات الرسمية العربية والإقليمية والدولية، وهذا سيدخل المشهد الفلسطيني الممزق، في دوامة جديدة من الصراع والمواجهة لا نهاية لها ولا طائل من ورائها، والمنتصر فيها مهزوم بالضرورة.

والحقيقة أن المراقب يحار في فهم محركات التوجه الفلسطيني الجديد ودوافعه … نعرف أن هناك ضائقة اقتصادية ومالية، ونعرف أن حمل القطاع ثقيل بوجود عشرات ألوف الموظفين والمتقاعدين، من الذين ألحقتهم حماس بركب الوظيفة العامة، وهم أزيد من أربعين ألفاً، أو من الذين طُلِبَ إليها أن يبقوا في بيوتهم، وأن يقاطعوا المؤسسات التي عملوا بها، بعد سيطرة حماس عليها … هذا وضع كارثي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً، بيد أن الحل لن يكون بالإسراع في ضم هذه الجيوش من الموظفين والعاملين، إلى مستنقع الفقر والفاقة، ودفعهم دفعاً للتخندق خلف حماس، وربما من هم أكثر تشدداً من حماس، من حركات الإسلام السياسي والعنيف، التي تحتفظ بنفوذ لها في القطاع المجوّع والمحاصر.

ونعرف أن هناك ضغوطاً من مجتمع المانحين، بتقليص «الأموال المهدورة» على موظفين لا يفعلون شيئاً غير الجلوس في منازلهم، ولكن هناك أيضاً معلومات عن ضغوط لوقف رواتب أسر الأسرى والشهداء، بل وإعادة صياغة «السرديات» الفلسطينية التي أحاطت هذه الفئة من المناضلين، بهالة من القدسية، رفعتهم إلى مستوى الأيقونات، فهل سنخضع لهذا وتلك من الضغوطات، وما الذي سيتبقى لفتح والسلطة والمنظمة، بعد ذلك؟

نعرف كذلك، أن ثمة حركة نشطة، تستهدف إحياء مسار التفاوض على الحل السياسي للمسألة الفلسطينية، وأن إدارة ترامب، ماضية في طريقها لإنفاذ صيغة من صيغ الحل الإقليمي للقضية … لكننا نعرف أن هذه الإدارة من بين من سبقها من إدارات، هي الأكثر تطرفاً في انحيازها لليمين الديني والقومي في إسرائيل، وأن كان محركها للبحث عن حل لقضية فلسطين، لا يختلف عن محركات من سبقها: جمع العرب تحت لواء محاربة إيران، مثلما تم جمعهم في حفر الباطن في العامين 1990-1991ضد نظام الرئيس صدام حسين، مقابل جائزة ترضية (مؤتمر مدريد)، وضد النظام ذاته في 2003، مقابل جائرة ترضية أقل (خريطة الطريق)… قدم العرب ما عليهم من التزامات تجاه واشنطن في الحربين، وضل مدريد طريقه، وتبددت الخريطة بكل استحقاقاتها، وأعادت إسرائيل احتلال الضفة من جديد… ولا شيء يدعو للاعتقاد بأن قادمات الأيام مع إدارة ترامب، ستحمل مصائر مغايرة للفلسطينيين وقضيتهم الوطنية.

كان يمكن للرئيس عباس أن يذهب بعيداً في مسار الحسم والتصعيد مع حماس، لو أنه ملأ يديه بوعود صلبة من إدارة ترامب وحلفائها ، بأن الاستيطان سيتوقف نهائياً، والدولة على مرمى حجر … لكن الرئيس عباس نفسه، هو أكثر العالمين، بأن المسار الذي يطلب إليه الالتحاق به، ومن دون شروط مسبقة، هو مسار مفخخ بالوعود الناقصة والكاذبة، وأن ليس لديه ما بمقدوره أن يعد به شعبه، سوى التمنيات والرهانات (اقرأ الأوهام)، فكيف سيكون عليه حاله، إن ذهب حتى آخر الشوط في معركته مع حماس، واستتباعاً القطاع، من دون أن يسجل أي نجاح يذكر في معركة الحرية والاستقلال مع إسرائيل؟

ونخشى أن يكون الرئيس واركان السلطة، تشجعوا بـ «المزاج العام» الذي يحكم كثيرا من العواصم العربية والغربية (والشرقية بالمناسبة)، المناهض للإسلام السياسي (الإخواني بخاصة)، والمعادي بشدة لإيران وحلفائها في كل ساحة تتوافر فيها على قدر من التأثير والنفوذ… وربما يكونون أجروا حسابات مفادها، أن اللحظة قد باتت مواتية لتصفية حساب قديم – جديد مع الحركة، مثل هذه المقاربة، وفي الحالة الفلسطينية على وجه الخصوص، تعتبرالوصفة الأقصر للخراب، ثم أن حماس و«المعسكر الآخر» المؤلف من خليط غير متجانس من القوى والعواصم، تبدأ بالدوحة ولا تنتهي بأنقرة وطهران والضاحية الجنوبية، ولكل منها حسابات ومصالح مغايرة للأخرى، لن تقف مكتوفة الأيدي حيال عمليات خنق حماس أو إعلانها فصيلاً مارقاً، أو إعلان القطاع تحت قيادتها، «إقليماً متمرداً» … يجب التريث عند إجراء الحساب، وثمة طرق أخرى لإنهاء ملف الانقسام، مدخلها الأول والأخير، التوافق والتدرج والاستعداد لتقديم تنازلات مؤلمة للآخر في الوطن، بدل الاكتفاء بتقديم التنازلات للآخر من خارجه، وهذا ينطبق على فتح وحماس، وبالقدر ذاته … فلغة الحسم، والغالب والمغلوب، لم تجد في غير ساحة عربية، فما بالك والساحة الفلسطينية ترزح برمتها تحت الاحتلال والحصار، وتتهددها الطائرات والمدافع والأنياب الفولاذية الحادة لجرافات الاستيطان الإسرائيلية.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى