اخترنا لكنون والقلم

ظهور ترامب والتحولات العالمية

اتسعت دائرة التشخيص لرئاسة دونالد ترامب، بعد فترة من التأمل الهادئ من المحللين السياسيين، لتستوعب آفاقاً لم تطرح من قبل على هذا النحو، تربط وصوله إلى البيت الأبيض، بظواهر عالمية أبعد مدى من الحالة الداخلية في الولايات المتحدة.
بعضها يرى أن انتخاب ترامب، وكونه أصبح رئيساً لأمريكا هو أحد التحوّلات السياسية القوية، التي تعد مؤشراً على نهاية التوافق المجتمعي الديمقراطي الذي ميّز الغرب كافة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وأن فوزه بالرئاسة، ينبغي أن ينظر إليه في إطار يضم أحداثاً درامية أخرى، مثل ظهور تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، وتصويت البريطانيين على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
أحد الذين تبنّوا هذه النظرة، كان الكاتب بانكاج ميشرا المقيم في بريطانيا، وهو بريطاني مولود في الهند، في كتابه «عصر الغضب» Age Of Anger، ويقول: ربما يتصور من ينظر لأول وهلة، إلى هذه الأحداث المتباعدة، ليجد ما يربط بينها، أن لا شيء يجمع بينها، على حين أن النظرة المتعمقة سوف تظهر له، أنها كلها جزء من ظاهرة استياء متزايد، من هؤلاء الذين يشعرون بأنهم مهمشون من طبقات أقوى منهم، أو الرافضون تماماً لأوضاعهم.
ولا ينفصل عن وصول ترامب لرئاسة أمريكا، تمدد واتساع حركة العولمة، والتي أصبح ينظر إليها أحد أخطر الشرور، التي أوصلت ترامب للحكم، فهو الذي خاطب ناخبيه مركزاً على ما جلبته العولمة على حياتهم من أضرار، موضحاً أنه سيعمل على إعادة توفير ملايين الوظائف للأمريكيين، والتي نقلتها الشركات الأمريكية العملاقة، إلى شعوب دول أخرى منافسة لأمريكا مثل الصين، بعد أن أسست مصانع ودوائر أعمال لها، في دول خارجية، للاستفادة من ضآلة أجور مواطنيها، بالمقارنة بأجر العامل في أمريكا. وقال ترامب إن استراتيجيته المسماة «أمريكا أولاً»، سوف توقّع عقوبات على الشركات الأمريكية، إذا لم تستثمر في إنتاج أمريكي يوفر وظائف للأمريكيين.
ولعل تلك المفاهيم هي التي تمثّل مضمون كتاب «عصر الغضب»، والذي يقول مؤلفه أيضاً إن كثيراً من التحديات السياسية والاجتماعية، التي نواجهها اليوم، هي نتيجة للعولمة، والتي جعلت الملايين في أنحاء العالم يشعرون بأن ما كانوا يتمتعون به من مزايا داخل بلادهم قد تقلّصت وتراجعت. وأن العولمة تجد تعبيراً عنها في سرعة الاتصالات عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، وحركة انتقال رأس المال من خلال هذه الوسائل، بحيث إن الإيقاع السريع لكل شيء، قد أضعف الأشكال القديمة لممارسة السلطة، بالإضافة إلى تصاعد تصرفات جماعات ومنظمات ليست لها صفة الدولة، ولا تلتزم بالقوانين الدولية، أو المعايير الإنسانية والأخلاقية، مثل المنظمات الإرهابية، وعصابات الجريمة المنظمة، والتي زاد نشاطها عبر الحدود، على المستوى العالمي.
وبينما يميل المحللون في الغرب إلى إلقاء اللوم على الكثير من المشاكل والمتاعب التي تواجهها شعوب دول عدّة، كونها السبب وراء تصاعد التطرف والإرهاب العالمي، فإن التشخيص الذي يراه بعض الدارسين يلقى باللائمة على النتائج الضارة للعولمة، فنحن نعيش في عالم شاسع، لكنه صار متجانساً، وأشبه بسوق عالمي واحد كبير، يسعى كل من فيه لتضخيم مصالحه الخاصة، ويتطلعون لاقتناء الأشياء نفسها التي تنتج في هذا العصر، بصرف النظر عن ثقافاتهم الأصلية، أو أمزجتهم الفردية. وفي هذا المناخ ظهرت مفاهيم شعبوية، تركز على المصالح الخاصة لبلدهم أولاً.
هذا التشخيص الذي يطرحه بعض المحللين، يجد له صدى في سياسات وأفكار دونالد ترامب، من حيث سعيه لإعادة بناء الاقتصاد الأمريكي، بعد سنوات من التراجع خاصة في مجال الصناعة، وإعادة بناء مكانة أمريكا العالمية، بطريقة تعيد لها الهيمنة على المسرح العالمي.
هذه المفاهيم حاولت أن تلمّ برئاسة ترامب، من زوايا متعددة، دون التوقف عند زاوية واحدة بعينها، بالرغم من إيمان البعض بهذه المفاهيم، والتي تعززها أسباب داخلية دفعت ترامب إلى السلطة، منها استياء الرأي العام من سيطرة النخبة على صناعة السياسة الخارجية، وخضوعها لسطوة جماعات المصالح وقوى الضغط، دون الاستجابة لرغبات الرأي العام.

فضلاً عن التراجع في المستويات المعيشية للطبقة الوسطى، التي تمثّل تكتل أصوات الناخبين، فإن هناك أسباباً أخرى محلية وإقليمية، وراء ظاهرة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتشار الإرهاب في العالم.

الأول أن مركز الجاذبية والتأثير في دول العالم، والذي كان يعود بالمنفعة على الدول الغربية، في طريقه للانتقال إلى آسيا تحديداً، والتي صارت دول أوروبية، وفي مقدمتها بريطانيا، تجد من مصلحتها التوسع في علاقاتها معها، خاصة في النواحي التجارية والاقتصادية، بالإضافة بالطبع إلى ما شعر به البريطانيون من أن حدودهم المفتوحة مع دول الاتحاد الأوروبي، تسهل دخول عناصر إرهابية تتسلل من هذه الدول، وتحمل جنسيتها وهو ما يهدد أمنهم.

والسبب الآخر وراء تصاعد الإرهاب، يرجع إلى قدرة جماعات معروفة تاريخياً بأنها داعية للتطرف والإرهاب، على تضليل صغار السن، والترويج بينهم، لأفكار خداعة تقنعهم بأنها تعبر عن الدين وتعاليمه، رغم مخالفة هذه الأفكار للعقيدة الإسلامية أصلاً.

يضاف إلى ذلك استغلال مخابرات قوى كبرى، لما تنشره الجماعات الإرهابية من فوضى، واعتقادها بأن هذه الفوضى تخدم خططاً واستراتيجيات قديمة لهذه القوى الكبرى. ولما كانت منظمات الإرهاب لا دين لها، ولا مرجعية إنسانية أو أخلاقية، فهي قد نقلت إرهابها إلى قلب الدول الأوروبية ذاتها، وبذلك تصاعدت ظاهرة الإرهاب بشكل خطر.
وبشكل عام فإن مؤلف كتاب «عصر الغضب» قد اتخذ لنفسه رؤية مخالفة لكثير من النظريات المستحدثة في عالم اليوم، فهو مثلاً يرفض نظرية صدام الحضارات للمفكر الأمريكي هنتنغتون، ويقول إن الصدام الآن ليس بين الحضارات لكنه داخل هذه الحضارات، وإنه خلاصة ميراث تاريخي طويل من عصور الاستعمار، والحروب، والعنف، والسيطرة على الشعوب، وصولاً إلى أكثر ظروف التقدم التكنولوجي تأثيراً، حتى في الدول المتقدمة، ومن داخلها.

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى