نون والقلم

صبحي حديدي يكتب: مَنْ تعمد ابتذال الآخر في سوتشي: بوتين أم الأسد؟

قد تتطلب الموضوعية التبصّر، قليلاً، قبل اتهام الاستخبارات الروسية بالغباء والحمق وسوء التقدير والتدبير؛ بافتراض أنها كانت شريكاً في إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بجدوى عقد ما سُمّي بـ«مؤتمر الحوار الوطني» السوري في منتجع سوتشي ، واتكاءً على مآلات الفشل الكارثية التي أسفر عنها، في نهاية المطاف. للمرء هنا أن يسارع، مطمئناً، إلى استبعاد مقادير مماثلة من الحماقة يمكن أن ينسبها البعض إلى وزارة الخارجية، في شخص الوزير سيرغي لافروف أو نائبه وذراع الخارجية الضارب ميخائيل بوغدانوف؛ لسبب جوهري أوّل هو أنّ إدارة بوتين، وبالنظر إلى تنشئة الرئيس نفسه في جهاز الـKGB، وإلى طبيعة النظام الذي يقوده منذ 1999، تعتمد على جهاز الأمن أكثر بكثير من أيّ جهاز سياسي أو دبلوماسي مدني آخر.

فما الذي أطاش صواب سيرغي ناريشكين، رئيس أجهزة الاستخبارات الروسية والمقرّب جداً من بوتين، حتى نصح رئيسه بعقد هذا المؤتمر، مدركاً ـ كما يقول منطق العقل والتعقل، بالطبع ـ أن دعوة 1600 مندوب، إلى جلسة واحدة تدوم ساعات قليلة؛ يمكن أن يؤول إلى أية نتيجة أخرى سوى الفشل الذريع، بعد المهزلة الفاضحة السقيمة؟ وعلى نطاق أعرض، ينطلق من إنجازات الكرملين ابتداءً من العام 2012، على صعيد السياسة الخارجية عموماً، والخيارات في سوريا بصفة خاصّة؛ أليس من الإنصاف التسليم بأنّ موسكو وجّهت «ضربات معلّم» فائقة البراعة، والجسارة أيضاً (ليس أقلها إعادة إحياء نظام القطبين، والانتشار العسكري خارج روسيا، وتجميل نظام بوتين عن طريق تنمية شعبيته كقائد روسي قومي صاحب سطوة كونية…)؛ بحيث يصعب أن تقترن بتلك الضربات حماقةٌ موصوفة من الطراز الذي كشفت عنه وقائع سوتشي؟

وهكذا، إذا جاز منح أجهزة بوتين فضيلة الشك (في أنها، منطقياً هنا أيضاً، أكثر ذكاء بالقياس إلى سجلها وأفعالها طيلة سبع سنوات من مناصرة نظام بشار الأسد خلال الانتفاضة)؛ فهل يجوز ترجيح تأويل آخر، نابع من خلفيات أخرى، ومسببات مختلفة، سواء خطط لها الكرملين ذاته؛ أم تولاها شريك سوتشي الثاني، في أنقرة؛ أم قفز إليها النظام السوري، بتسهيل من الشريك الثالث في طهران؟ في عبارة أخرى، هل أُريد لمؤتمر سوتشي أن يكون على هذه الشاكلة، الهابطة الهزيلة، التي تعلن الفشل مسبقاً؛ لأنّ هذا بالضبط، وليس أيّ مستوى من النجاح، هو المطلوب عن سابق قصد وتصميم؟ وإذا صحّ ترجيح مثل هذا، فمَن الذي تعمّد ابتذال الآخر في المحصلة كما شهدها العالم، والسوريون على نحو خاصّ: بوتين، أم الأسد؟

موسكو، بادئ ذي بدء، تشتغل اليوم على الملفّ السوري من زاوية أنها أنجزت، أو توشك على إتمام، الشطر العسكري من مشروعها في سوريا؛ والذي اختزله بوتين، خلال زيارته إلى قاعدة حميميم، في حكاية القضاء على «الإرهاب»، وكان يعني «داعش» أساساً، وإن اشتمل التلميح على سواها، و«جبهة النصرة» تحديداً. بذلك فإنّ الشطر التالي هو العملية السياسية، إذْ لن يستقرّ الوجود العسكري الروسي في سوريا على نحو مرضٍ، يوازي الكثير من ذاك الرصيد العسكري والمالي والسياسي الذي استثمره الكرملين، إلا إذا توفر في البلد نظام مستقرّ في الحدود الدنيا. استطراداً، ولأنّ موسكو تعرف أنّ الأسد لم يعد رقماً وارداً يُحتسب في مستقبل سوريا، حتى إذا توجب إعادة تأهيل بعض مفاصل نظامه (الجيش، الأجهزة الأمنية، شرائح الموالاة الاجتماعية المختلفة العابرة للطوائف ولكن داخل الطائفة العلوية أيضاً…)؛ فإنّ الحاجة إلى استدراج المعارضة السورية إلى المعادلة السياسية أمر بات مطلوباً، بل لا غنى عنه أيضاً.

من هنا ولدت صيغة مؤتمرات أستانة، التي تُبقي موسكو في قلب اللعبة التفاوضية دون أن تجعل منها طرفاً راعياً أو محرّكاً أو ضامناً؛ وتُدخل المعارضة السورية ـ وهي هنا، المعارضة الخارجية حصرياً، أياً كانت هيئاتها ـ كندّ مقابل للنظام، بما يكسر عملياً ذلك «التحريم» الذي كان الأسد يفرضه على معارضين ليسوا بالنسبة إليه سوى «إرهابيين». على قدم المساواة، وهذا جزء بالغ البراعة في الروليت الروسية، إذا جازت الاستعارة؛ كانت جولات أستانة تفرغ جولات جنيف/ فيينا من معظم محتواها التطبيقي، ليس لأنّ طاولات التفاوض تعددت وتبعثرت، فحسب؛ بل كذلك لأنّ المرجعيات ضاعت بين الأمم المتحدة وقراراتها، وبين ما يجري تفريخه في أستانة من وثائق ومشاريع دساتير و… تنازلات!

أيضاً، في متابعة الروليت إياه، كان نجاح موسكو في استدراج المعارضة السورية قد اقتضى، كذلك، استمالة حلفاء هذه الأخيرة، ممّن يتولون الجانب العسكري أوّلاً، قبل الجوانب الدبلوماسية أو المالية أو اللوجستية. ذلك دفع موسكو إلى عقد سلسلة تسويات مع حليف المعارضة الراهن الأبرز، أنقرة؛ وذلك بعد طور عاصف تضمّن إسقاط السلاح الجوي التركي طائرة روسية، وفرض موسكو عقوبات اقتصادية على تركيا، وتوتراً لم يشهد له تاريخ العلاقات الثنائية مثيلاً. وفي رأس ذلك الجهد الروسي للانفتاح على أنقرة، توجّب الإذعان لهاجس تركي قديم ومتأصل، هو مناهضة أيّ كيان مستقلّ أو شبه مستقلّ يقيمه الكرد على الحدود السورية ـ التركية. ولم يجد الكرملين عناء في الاستجابة، لأنّ موسكو لن تكون أوّل، ولا آخر، قوّة كونية تغدر بالكرد بعد تحالف؛ كما أنّ أيّ عمل عسكري تركي ضدّ الكرد في سوريا إنما يخدم المصالح الروسية، إذْ يدقّ إسفيناً في علاقات أنقرة مع واشنطن، راعية الكرد في سوريا.

ذلك، أيضاً، كان يردّ بعض الصاع إلى التطورات الأخيرة التي طرأت على الموقف الأمريكي من الملفّ السوري، سواء لجهة مستويات الدعم التسليحي المتزايدة للقوى الكردية، أو المشاركة العسكرية الميدانية الفعلية في توجيه «قوات سوريا الديمقراطية» شرق الفرات، وفي مواقع عديدة على امتداد منطقة الجزيرة؛ أو لجهة الحديث عن تشكيل قوّة كردية، برعاية أمريكية، قوامها 30 ألف جندي على طول الحدود السورية ـ التركية. هذا التصعيد، إذْ يستحق توصيفه هكذا، بدا في ناظر موسكو أشبه بالجزء الثاني المتمم لنظرية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، حول ترك الروس يغرقون في المستنقع الروسي؛ أي الجزء الذي يعني استثمار التورّط الروسي على الأرض، دون الاضطرار إلى سداد رأسمال كبير، أو تكبد خسائر باهظة!

وهكذا، في التأرجح (الإيجابي، الماهر والمرن كما يتوجب القول) بين مرجعيات حميميم وأستانة وجنيف، لعلّ الكرملين اختار أن يُظهر للعالم بأسره ثالثاً، وللجمهور الانتخابي الروسي ثانياً، ثمّ للسوريين أنفسهم أوّلاً؛ مقدار السخف الذي يمكن أن يتصف به أي «حوار وطني» سوري ـ سوري، يكون طرفه الأول «جمهور النظام»، القادم في رحلة سياحية للغناء والرقص والتدافع على الطعام؛ وطرفه الثاني «معارضة» بائسة تابعة، تنطق أنقرة باسمها في قاعة المؤتمر وهي نائمة على بلاط مطار سوتشي! وهذا قد يعني أنّ موسكو تعمدت تذكير الأسد بحقيقة سلطته «الشعبية»، إذا توهّم انتصاراً ما، يسوّل له الخروج من النير الروسي وإفشال مؤتمر سوتشي عن طريق ابتذاله؛ كما تعمدت تذكير المعارضة السورية بأنّ غيابها عن سوتشي ليس أشدّ هزالاً من حضورها في جنيف أو فيينا، فضلاً عن إمكانية اقتياد أفراد من أمثال أحمد طعمة يسهل أن تُلصق بهم صفة «المعارضة»!

ولعلّ خلاصة الرسالة الروسية تبدو هكذا، إذن: الملفّ بات في موسكو، ولها أن تخلط سوتشي بأستانة وجنيف وفيينا؛ إذْ أنّ ما استثمرته في سوريا، قرابة 30 شهراً بصفة خاصة، غير قابل للخسائر، ناهيك عن الأرباح غير المضاعفة!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

نقلا عن صحيفة القدس العربي

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى