نون والقلم

رهان صهيوني خائب

قبل أكثر من عشر سنوات صدر في فرنسا كتاب «أبناء رفاعة» للمؤلف غي سورمون وهو فرنسي من أصل يهودي ولديه أهل يعيشون في «إسرائيل». يتحدث الكتاب عن جيل من المسلمين تأثر بالحداثة الغربية ومثالهم وربما ملهمهم الشيخ رفاعة الطهطاوي، صاحب الكتاب الشهير «تخليص الابريز في تلخيص باريس».

كان الطهطاوي مشرفاً دينياً على بعثة أرسلها محمد علي باشا إلى باريس في مطالع القرن التاسع عشر، للتزود بعلوم الفرنسيين ومعارفهم ونقل هذه المعارف إلى مصر. و تشبه البعثة ما كان يفكر به نابليون بونابرت بعد انسحابه من مصر وبقاء حملته العسكرية فيها، إذ طلب من خليفته الجنرال كليبير أن يأتي إلى باريس بـ 600 وجيه ومثقف مصري، يبقون في فرنسا عدة سنوات ثم يعودون إلى بلادهم ويتحولون إلى سفراء لباريس فيها، لم تتم الفكرة لأن كليبير سقط بخنجر سليمان الحلبي واضطر خليفته الجنرال مينو للانسحاب من مصر على ظهر بواخر انجليزية بطريقة مهينة.

ما عجز بونابرت عن تحقيقه، أنجزه محمد علي باشا وربما دون علم بالرسالة المذكورة، خصوصا أن الفكرة تبناها من بعد كثيرون وربما تسللت إلى قصر الباشا محمد علي عبر مستشاريه الفرنسيين بوصفها نصيحة مفيدة لمصر والمصريين. في المحصلة استطاع الطهطاوي ان يلخص سنواته الباريسية الخمس في كتابه المذكور بطريقة جذابة، وأن يحول باريس من عاصمة عدوة احتل زعيمها مصر من أجل إنشاء مستعمرة فيها للضغط على البريطانيين في طريقهم إلى امبراطوريتهم في الهند الشرقية، إلى عاصمة صديقة يمكن من خلالها بلوغ التنوير وتبني الحداثة.

هكذا نرى أن أبناء رفاعة في نظر الكاتب غي سورمون هم بالضبط أولئك الذين تخيلهم بونابرت ومحمد علي باشا من بعد، إلى أن «قطعت ثورة 23 يوليو عام 1952 الطريق عليهم» وأعادت تربية المصريين والعرب سياسياً بطريقة مختلفة تماماً بدوافع «قومية واشتراكية» على حد تعبيره.

سنلاحظ في سياق الكتاب تفسيراً لأسف «غي سورمون» الضمني لهذا الفشل، فقد اكتشف من خلال زياراته للعديد من البلدان العربية والإسلامية، أن المسلمين يختلفون بين بعضهم بعضاً حول قضايا كبيرة وصغيرة لا تحصى لكنهم يجمعون على شيئين فقط هما القرآن والقدس. ويخلص الكاتب إلى أن إجماعهم هذا لا يضمن بقاء «إسرائيل» إلى الأبد، ذلك أن مليار مسلم يجمعون على وجوب تحرير القدس وأنهم سيجدون يوماً الفرصة لتحقيق هذا الحلم وبالتالي من الصعب على «إسرائيل» أن تندمج في وسطهم.

ويقول سورمون إنه قام بجولته المذكورة لكي يتعرف بنفسه إلى آراء المسلمين، تحدوه رغبة في التعرف إلى مستقبل «إسرائيل» في محيطها العربي الإسلامي، لأنه يؤمن بوجوب بقاء الدولة العبرية ولأن جزءاً من أهله كما أسلفنا يعيشون فيها.

لو قيض لـ«سورمون» أن يتأمل ملياً في الانتفاضة التي تتم هذه الأيام من أجل المسجد الأقصى، لربما فرح وحزن في آن معاً، أما الفرح فهو ناجم عن أن التطورات في المنطقة صبت الماء في طاحونته، وبينت مرة أخرى إلى أي حد يمكن للقدس والأقصى بصورة خاصة، أن تجمع من حولها معظم إن لم يكن كل المسلمين المتنابذين أو المتخاصمين أو المتحاربين. وأما الحزن فهو ناجم أيضا عن استشرافه القوي إلى حد اليقين بأن مصير «إسرائيل» محكوم بالزوال.

إن انتفاضة الدفاع عن الأقصى خلال الأسابيع الماضية بينت أن الحرب السورية واليمنية والليبية وما يدور في سيناء وفي السودان وفي الصومال فضلاً عن «داعش» والمنظمات الإرهابية التي خاضت وتخوض مجابهات دموية على مقربة من القدس، كل ذلك لم يضعف أولويات الفلسطينيين والعرب في أن القدس تحتل عندهم مرتبة مميزة على خريطة الصراع لا تنافسها قضية داخلية أخرى عربية أو إسلامية، الأمر الذي يؤكد ما ذهب إليه سورمون من أن قدسية الأقصى تستدرج اجتماع القسم الأعظم من زعماء العالم الإسلامي وشعوبه.

ولو عدنا إلى التفاصيل نلاحظ أن الأزهر الشريف رغم «كامب ديفيد» وقف ضد الحواجز الإلكترونية حول مداخل القدس وحذر الدولة العبرية من عواقب وخيمة على فعلتها تلك، وتبعته السلطة الفلسطينية التي أعلنت تجميد الاتصالات الأمنية مع الكيان حتى يتم نزع الحواجز الإلكترونية، ودعت المنظمات الفلسطينية في غزة والخارج إلى تعظيم الانتفاضة لحماية الأقصى، وأذيعت برقيات دعم وتأييد من جمعيات ومنظمات إنسانية، في حين اغتال شاب فلسطيني عائلة يهودية في إحدى المستوطنات دفاعاً عن الأقصى.. الخ.

يظهر ما سبق أن المسجد الأقصى ما زال يتمتع برمزية عالية الأهمية، وما زال قادراً على استدراج الإجماع من أطراف عربية وإسلامية متحاربة إلى حد الفناء، ذلك أن ما يفرقها من الداخل لا ينعكس اصطفافاً إلى جانب الدولة العبرية ضد فلسطين وبالتالي فإن الاستثمار «الإسرائيلي» والأمريكي في هذا المجال لا قيمة له وأن الأرض لأهلها الأصليين وللمدافعين عنها حتى الموت على الرغم من مشاكلهم وأولوياتهم الأخرى ولعل في ذلك خيبة «إسرائيلية» كبيرة بعد رهان كبير على خراب الوطن العربي خلال السنوات السبع الماضية.

نقلا عن صحيفة الخليج

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى